ما أن أعلنت الولايات المتحدة قرارها سحب قواتها العسكرية من أفغانستان حتى سارعت الدول التي شاركتها في التحالف العسكري للغزو وإطاحة إمارة طالبان في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2001 إلى إعلان سحب قواتها هي الأخرى. والتواجد البريطاني في أفغانستان هو الأكبر بعد الأمريكي، إذ انتشرت القوات البريطانية في مختلف جهات البلاد ولعبت دورا كبيرا في العمليات القتالية حتى عام 2014 وتكبدت جراء ذلك خسائر بشرية قوامها 457 عسكريا بالإضافة إلى عشرات المليارات من الخسائر المادية.
في الثامن من تموز/يوليو الماضي، أعلن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون سحب قوات بلاده من أفغانستان، إذ صرح بالقول إن «جميع القوات البريطانية المكلفة ضمن بعثة حلف شمال الأطلسي في أفغانستان تعود الآن للوطن» وتابع «لن أفصح عن الإطار الزمني لمغادرتنا، لكن يمكنني إبلاغ البرلمان أن معظم جنودنا غادروا بالفعل» وأضاف «أن بريطانيا ستواصل تقديم مساعدات تنموية لأفغانستان».
أولى تداعيات قرار سحب القوات البريطانية كانت المطالبة بتوفير ملاذات آمنة لمئات الأفغان الذين عملوا مع القوات البريطانية كمترجمين، وكذلك الصحافيين المحليين ممن تعاملوا مع القوات الأجنبية، فقد أصيبت هذه الشريحة بالهلع نتيجة اقتراب سيطرة حركة طالبان على المدن الأفغانية الواحدة تلو الأخرى، ما يعني أنهم سيكونون عرضة للقتل والتنكيل بهم وبعوائلهم نتيجة تعاونهم مع الوجود الأجنبي في البلاد. وأعلنت بريطانيا عن خطط عاجلة لإعادة توطين مئات الأفغان الذين عملوا مع الجيش البريطاني وحكومة المملكة المتحدة، وشملت الخطة أفراد أسر الأشخاص أيضا، ومن المتوقع أن يُسمح لأكثر من 3000 أفغاني بالإقامة في بريطانيا، لينضموا إلى 1300 شخص فعلوا ذلك قبلهم.
وقال وزير الدفاع البريطاني بن والاس، إن «من الصواب» التعجيل بتنفيذ خطة حماية الأفغان العاملين مع القوات البريطانية، وأضاف أن من سيُنقلون هم أشخاص «عرضة لخطر الانتقام» من مقاتلي حركة طالبان. وبموجب السياسة البريطانية الحكومية، ستكون الأولوية لأي موظف محلي حالي أو سابق، يُعد بحسب تقييم البريطانيين عرضة لتهديد خطير على حياته، بغض النظر عن وضعه الوظيفي، أو الرتبة، أو الدور، أو مدة الخدمة. كما وصفت وزيرة الداخلية البريطانية، بريتي باتيل، القرار بأنه «التزام أخلاقي».
ويبدو أن المؤسسة العسكرية البريطانية تعلم جيدا مدى الكارثة التي ستحل في أفغانستان والمنطقة، فقد حذر قائد القوات المسلحة البريطانية في أفغانستان نيك كارتر، من احتمال أن تكون أفغانستان في طريقها إلى حرب أهلية، مع مغادرة القوات الأجنبية. وقال بعد إعلان رئيس الوزراء بوريس جونسون مغادرة معظم الجنود البريطانيين أفغانستان إن من «المعقول جداً أن تنهار الدولة من دون وجود قوات دولية هناك» وأشار القائد العسكري إلى أن أفغانستان «يمكن أن تشهد وضعاً مثل الحرب الأهلية التي شهدتها في التسعينيات، فقد نرى عودة ثقافة أمراء الحرب. كما أن بعض المؤسسات المهمة مثل قوات الأمن تنقسم على أسس عرقية أو قبلية» ويتوقع كارتر «إذا حدث ذلك، أعتقد أن حركة طالبان ستسيطر على جزء من البلاد، لكن بالطبع لن تسيطر على البلاد بشكل كامل».
فتح خطوط تفاهم
لكن يبدو أن الحكومة البريطانية تحاول فتح خطوط تفاهم مع حركة طالبان المتشددة، وذلك بإبداء موافقتها على التعامل المستقبلي مع الحركة. فقد أعلن وزير دفاعها بن والاس منتصف تموز/يوليو الماضي قبول بريطانيا التعامل مع حركة طالبان في أفغانستان إذا دخلت الحكومة واحترمت حقوق الإنسان. وقال والاس في مقابلة مع صحيفة «تيلغراف»: «مهما كانت الحكومة القائمة، ستتعاون الحكومة البريطانية معها بشرط أن تحترم بعض المعايير الدولية» وأضاف «لكن كما يحصل بالنسبة للحكومات الأخرى في العالم، إذا تصرفت بشكل يتعارض بشكل خطير مع حقوق الإنسان، فسنعيد النظر في علاقتنا». إذ تعتقد حكومة بوريس جونسون أن حركة طالبان تطمح إلى «اعتراف دولي» للحصول على التمويل والدعم اللازمين لإعادة إعمار البلاد، وكما أشار وزير الدفاع «هذا لا يتم إذا كانوا يرفعون راية الإرهاب، يجب أن يكونوا شركاء في السلام، وإلا فسيواجهون مخاطر العزلة». هذا رأي أثار الاستياء والسخرية لدى الرأي العام البريطاني لأنه في غاية التهافت وعدم المسؤولية، إذ تسلم قوات حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة دولة بحجم وخطورة موقع أفغانستان لحركة طالبان التي عرفت بأنها تنظيم متشدد سلوكياته إرهابية سابقا، والمفارقة أن الحكومة البريطانية تطالبها اليوم أن تلتزم بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان.
موجات النقد بدأت تنهال على مواقف الحكومات البريطانية المتعاقبة منذ 2001 حتى الآن، إذ قادت سياسات تلك الحكومات، سواء أكانت حزب العمال أو المحافظين، إلى خسائر مادية هائلة بالإضافة إلى خسائر المملكة المتحدة 457 عسكريا قتلوا في حرب لم يكن لها من داع أو مصلحة لبريطانيا، وسبب التورط البريطاني في المشاركة في هذه الحرب التي استمرت 20 عاما هو خضوع رئيس الوزراء العمالي توني بلير لقرارات صديقه المقرب الرئيس جورج بوش الابن بدون تمحيص. وهاجم الكاتب البريطاني سيمون جنكينز في عموده بصحيفة «غارديان» القرار البريطاني الرسمي من الحرب الأفغانية، وذكر أن التبرير الوحيد عند بريطانيا لمشاركتها في الحرب الأفغانية هو العبارات المبتذلة الصادرة عن وزارة الخارجية حول «التأثير وردع الإرهاب والوقوف بمكانة عالية في العالم» ووصف الكاتب ذلك بأنها عبارات فارغة لإمبريالية جديدة، وأضاف جنكينز «في عالم من الاعتذارات من المقرر تقديم بعض الاعتذارات القوية في أيلول/سبتمبر المقبل عندما يتم الاحتفال بخروج القوات الغربية من أفغانستان».
تقاسم مناطق النفوذ
ويبدو أن صناع القرار الغربيين يأملون في أن لا تقع أفغانستان بالكامل بيد حركة طالبان، ويعتقد البعض أن الصراع سيؤدي إلى تقاسم مناطق النفوذ بين حكومة كابل وحركة طالبان، وبهذا الاتجاه كتب مايكل أوهانلون وهو باحث بريطاني يعمل بمؤسسة بروكينغز، في مجلة «ناشيونال إنترست» الأمريكية مقالا سلط فيه الضوء على الاستراتيجيات المحتملة للمستقبل القريب للوضع الأفغاني، ومن ذلك وصفه لطموح أو أمنيات الولايات المتحدة الأمريكية ودول حلف شمال الاطلسي في أن يخلق الصراع الحالي وضعا يتسم بالجمود العسكري تسيطر فيه حركة طالبان على بعض مناطق البلاد والحكم في حين تستحوذ حكومة كابل والميليشيات الصديقة على جزء آخر من أفغانستان.
وبحسب قراءة أوهانلون فإن هذا النوع من المواجهة، مع بعض الحظ، قد يفضي مع مرور الزمن إلى إمكانية التفاوض على تقاسم السلطة، وربما يساعد في الحفاظ على حلفاء الولايات المتحدة وتوفير مناطق آمنة نسبيا في أفغانستان، بحيث يتسنّى لأجهزة المخابرات الصديقة وضع ممتلكاتها وأصولها فيها مما يجعل من السهل الحيلولة دون بروز ملاذات آمنة «للمتطرفين العنيفين» في أفغانستان في المستقبل.
المواقف الدولية من الكارثة الأفغانية المقبلة بدت متباينة، وتوزعت بين مديح أو انتقاد قرار الرئيس الأمريكي جو بايدن بسحب قواته من أفغانستان، وقد حذر بعض السياسيين من الكارثة المقبلة، إذ حذر نوربرت روتغن رئيس لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان الألماني من «كارثة» دولية وشيكة في أفغانستان نتيجة تمدد حركة طالبان السريع وسيطرتها على أكثر من 80 في المئة من مساحة البلد. وقال لصحيفة «فرانكفورتر ألغيماينه تسايتونغ» الألمانية، إن هناك خطراً في أفغانستان يتمثل في استيلاء طالبان على الدولة بأكملها. وأكد قائلاً «لا يجب السماح الآن لهم بإرساء حقائق عسكرية على الأرض من جانب واحد». كما ناشد المجتمع الدولي لوقف هذا التطور حرصاً على أمنه الخاص، وعلى التزامه تجاه أغلبية الأفغان. ودعا السياسي الألماني الولايات المتحدة الأمريكية لاتخاذ إجراء في أفغانستان، وقال؛ «الرئيس الأمريكي جو بايدن لا تزال لديه امكانية التحكم في أول كارثة سياسية خارجية كبيرة نشأت نتيجة قراره الخاطئ بالسحب السريع للقوات الأمريكية من أفغانستان من دون اتفاق مع الحلفاء».
ومع اقتراب مقاتلي طالبان من العاصمة كابل، يبدو الخطر المحدق بهذا البلد أكثر تجليا، ومع العروض الباهتة لحكومة الرئيس أشرف غني أحمدزي بتقاسم السلطة مع طالبان الذي جوبه بتعنت مفاوضي الحركة، لأنهم ببساطة يرون المدن الأفغانية تتساقط الواحدة تلو الأخرى بأيدهم فلماذا يقبلون بتشارك السلطة؟ إلا إذا تدخل حلف شمال الأطلسي لتغيير الواقع على الأرض ولو باستخدام الضربات الجوية لإيقاف تقدم مقاتلي طالبان، وحينها فقط يمكن الحديث عن مستقبل مختلف للملف الأفغاني.