إن العمل وفق قاعدة ما، هو سمة الأشياء والظواهر المادية وغير المادية وهو طبيعة عامة وشاملة في العموم، وليس ثمة شيء أو ظاهرة في العالم خارجة عن قاعدة تمتثل لها وتجري وفق سياقاتها. من هنا صار الانتظام سمة كونية تتعايش وفقها المتضادات والمتناقضات كأنها ظاهرة واحدة، أو كيان واحد حتى لا مجال لإدراك جانب منها دون إدراك الآخر المضاد لها.
والتجنيس واحد من مظاهر الفكر النقدي التي امتثل الأدب لها وإلا ما كانت تسمية الشعر بالنظم وتسمية النثر بالتأليف، وكل من النظم والتأليف لا يحصلان إلا بوجود سياق سابق يجريان وفقه. هذا السياق هو القاعدة التي تشاكل حالة كانت حاصلة، ثم رسخت وصار من الصعب تجاوزها أو الاحتفاظ بجانب منها وترك جوانب أخرى. وبهذا صار الأدب وحدة في أجزائه وأنواعه وظواهره وأشكاله. وليس التقعيد الذي سمته النظم والتأليف بمقيِّد للأدب، بل هو سر تطوره واستمرار تغيره مرسخا تقاليده. والتجنيس واحد من تلك التقاليد. ومتى ما استجد جنس جديد طرأ على التقاليد تغيير يماثل التغيير في الوعي بها. وهو أمر لا يحصل بسهولة إلا بعد سلسلة مخاضات تستغرق زمنا ليس بالقليل إلى ان تختمر أبعاد القالب وتبين حدوده المختلفة عن حدود أي قالب اجناسي آخر، وعندها تكون القاعدة قد شملته بعموميتها وما الشمول سوى إقرار بمشروعية عد القالب الجديد جنسا. وإذا كان استيلاد الجنس الجديد بهذا التعقيد والتشابك، فإن العبور سيغدو هو الطريق الوسط الذي يغني عن الاستيلاد بما لديه من قدرة على إمداد القوالب بالشروط الضرورية الصانعة للتعابر التي هي بمجموعها تسعى إلى التوازن فلا تتضخم الأجناس فتزيد عن الحد الذي يمكن للأدب تحمله ولا هي تعجز عن تغطية حاجة الأدب للقوالب الكافية لتحقيق التجنيسية المطلوبة. وما توازن القوى سوى توازن القاعدة المنظمة لها ولو بشكل نسبي لكنه دائم يدفع بدوامية نحو استنهاض المزيد من متاحات التجنيس العابر والتوفيق بينها في توازنها.
هذا التوفيق الذي هو مطلب منظري الأجناس على اختلاف توجهاتهم، وبه تحل معضلات الاختلاف والتباين في تفاعل الأجناس مع بعضها بعضا، التي عليها تتوقف فاعلية القول بالتجنيس وهو ما يتخذه رافضو التجنيس ذريعة للمناداة باللاتجنيس بكل ما يعنيه من فوضوية الكتابة التي لن توصف بأنها انتظام وتأليف وإنما هي اصطناع وابتكار بلا أحقية تاريخية ولا نماذج معروفة وأكيدة. وتغدو التفاعلية هائمة بلا عنوان وعائمة بلا ضفاف، وهو ما يخالف طبيعة الأشياء التي لا تكون ماهيتها متحققة إلا وفق نظام تفرضه قاعدة عامة تنطبق على الجنس الذي تنتمي إليه تلك الأشياء.
وإذا كان اللاتجنيس هو اللاقاعدة، فإن هذا لوحده كاف لدحض فكرة انعدام قواعد تثبت شرعية أي شكل من الأشكال. وما دام العبور قائما فلا مجال لان يشيخ جنس، ولا أن يهرم لكن بالإمكان أن يتحول وان يتطور ليظهر مجددا في جنس هو أقوى منه على فرضية أن القديم الراسخ والجديد النامي يجب أن يدخلا في تفاعل وتناقض ويتصادما، وبالنتيجة يعبر الذي هو أقوى. وبالعبور تتوكد القاعدة الحاسمة لصراع الأجناس وتنافسها، وما يسفر عنه هذا التنافس من وحدة تجمع المتصارعين وتوازن بينهما بالعبور الذي دونه يستحيل تحقيق التوازن، كما لا يمكن التوفيق بين المتداخلين دون قاعدة هي بمثابة عملية طبيعية وحتمية وبخلافها يتوقف تطور الأدب. وهو ما لا تقبله طبيعة الأشياء وأنظمة إنتاجها، لأن كل شيء حينئذ سيكون جديدا بادئا من الصفر بلا نموذج سابق تراكم وتصارع ثم استوى واحدا شاملا غيره.
إن عدم الإقرار بوجود قاعدة للتجنيس العابر هو إقرار بأن التجنيس عملية تتم بلا قاعدة، وهو أمر غير صحيح. وواحدة من مقتضيات وجود القاعدة تتمثل في هذه التناقضات التي يشتمل عليها التداخل النصي، والتي تستوجب التقاطع ومن ثم يكون من المُهم حصول التوافق على قاعدة العبور.
إن في كل جنس أدبي ظواهر خاصة به، وأوجها متعارضة مع غيره لكن الأجناس بمجموعها تظل عبارة عن وحدة أضداد تنضوي في خانة واحدة متجاورة ومتداخلة، لكن الصراع يظل قائما بينها. وهو في الحقيقة صراع الأوجه المتعارضة كمحتويات داخلها وهذا الصراع هو مصدر تطورها لأنه يؤهلها للتعابر. وما جوهر قانون التعابر سوى الخضوع لقاعدة هي شمولية في وحدة التصارع بين المتضادات، وكلية في حتمية التنوع المؤدي إلى الانتظام داخليا وخارجيا ما بين العلاقات والطبقات والمستويات. وما يحدد درجة السيادة لواحدة منها هو لزومية الخضوع لتلك القاعدة، ومن يقل باللاقاعدة ويقلل من أهمية الامتثال لها اجناسيا فلن يغير من الأمر شيئا تماما، كالضوء الذي يعتقد انه ينكسر بمجرد مروره في جسيم ما، بينما الحقيقة الماثلة هي قاعدة تقول إن الضوء لا ينكسر وإنما هي طبيعة المنظور الذي به نرى انكساره أو عدمه تماما كالتجنيس الذي له قاعدة بها تفهم التأثيرات الخارجية التي تؤثر في عملية التعابر الأجناسي، وتؤدي إلى فهم تطورية خطوات هذه العملية التي تجري باتجاه نهائي منضبط فلا تنافر ولا تجاذب بين القوى الداخلة في العملية التجنيسية، كما لا وجود لتضاد يؤدي إلى التصارع ثم الغلبة.
إن تأكيدنا على الدور الحاسم للقاعدة في إنجاز عملية التعابر، نابع من حقيقة التناقضات الحاصلة في أثناء عملية التداخل وما تتخذه هذه التناقضات من أشكال هي نفسها تنظم نفسها بنفسها للتطور وما تستلزمه عملية التجنيس من حل تتوحد به قوى التصادم، مستعيدة نظامها من جديد وقد صارت معبورا عليها أو عابرة على غيرها، بلا إهمال أو تضاد؛ لا لشيء سوى حتمية التطور الذي يقتضيه الأدب. ولو افترضنا استحالة حل تلك التناقضات لكانت فكرة الأجناس منتفية، ومن ثم لا تداخل نصي يحدث في ما بينها أصلا. وهذا غير مقبول طبعا بحتمية القاعدة التي وفقها يكون توافق الأشياء في أشكال وأجناس. بمعنى أن عملية التداخل النصي تعمق التناقض وتزيد حدته، ما يؤدي إلى مزيد من التصادمات وهو ما يقتضي التوافق الذي وفق قاعدة العبور سيحصل توحد القوى وانتظامها لصالح الجنس العابر الذي يحوز ثمار التداخل ويوظفها باتجاه تحققه الموضوعي.
إن عدم الإقرار بوجود قاعدة للتجنيس العابر هو إقرار بأن التجنيس عملية تتم بلا قاعدة، وهو أمر غير صحيح. وواحدة من مقتضيات وجود القاعدة تتمثل في هذه التناقضات التي يشتمل عليها التداخل النصي، والتي تستوجب التقاطع ومن ثم يكون من المُهم حصول التوافق على قاعدة العبور. إن قوة العبور تكمن في قوة قاعدته النظرية وفاعلية التنفيذ الموضوعي لها بما يعزز وحدة القالب ويعمق حديته ويجعله أكثر متانة في مواجهة تناقضات العملية السابقة له، أعني التداخل. ولأن التناقضات حاصلة أثناء عملية التداخل تغدو هي نفسها محتما من محتمات بناء القاعدة التي يقوم عليها نظام التعابر الأجناسي، كمساع لإنشاء خط يجسر أولا المسافة الفاصلة بين المتداخلين، ثم يعطي الشرعية لأحدهما لاستعادة سيادته التي معها تحل التناقضات وتتحول إلى توافقات بلا اضطراب أو استغلال. بعبارة أدق نقول إن التداخل هو الأساس في توليد التناقضات كعناصر وجزئيات تنطوي على تنازع وتبار هو محفز أول من محفزات عملية العبور التي فيها تشتبك تناقضات تلك العناصر والجزئيات، لتكون الصورة النهائية لها توافقية وقد تحول الاشتباك إلى تجسير موصل إلى سيادة طرف بعينه وقد يتحد مع أطراف أخرى. وليس في هذه الجدلية كاتحاد وهيمنة أي تضادية لأنها عبارة عن قانون لا ينفصل عن القاعدة التجنيسية التي تقر بفاعلية القالب في تحديد إنتاجية أي جنس من الأجناس.
وما النمو المطرد في إمكانيات قالب دون غيره، سوى قدرته على تمثيل قاعدة التعابر نافذا منظما وقويا عميقا ومن ثم لا يعود هناك نظام أجناسي مشكل أو إشكالي يعاني من الخلخلة، ويخشى محو حدوده أو الاندماج الذي يضعف تجنيسه وتجنيس من يندمج به أصلا فتتخلخل القاعدة التجنيسية بالعموم وتغدو أكثر انهيارا أمام اللاقاعدة التي هي اللاتجنيس. ولا فرق في تنفيذ متطلبات التقعيد الأجناسي ما بين أجناس فتية راسخة لكنها جديدة وأخرى غير فتية راسخة وقديمة، لأن النمو سيكون مطردا باتجاه هذين النوعين من الأجناس معا، ناهضا بقيمتهما نصيا وبصرامة أساسية لقولبة الجنس الأكثر قدرة على فك التشابك وأداء الأدوار التي تحقق التطور وتؤكد صورته المستقلة والمنفصلة عن صورة أي جنس آخر. وبهذا تتصفى التناقضات وتترشح القاعدة لتكون لها وظيفتها المهمة والحاسمة في الجنس العابر وبنائيته. ودون القاعدة لا يمكن للتناقضات أن تحل أو تختفي، وفي النتيجة تظل إشكالية التجنيس قائمة لا حسم لها وقد تزداد هذه الإشكالية حدة وتبقى قائمة ما بقي التجنيس. ولا طريق إلى الانفراج والحل إلا بالعبور، لا بوصفه استغلال طاقة المعبور عليه لصالح الجنس العابر، بقدر ما هو حل للإشكالية التجنيسية التي فيها يكون الحفاظ على الأجناس هو المطلب الأول المتفق عليه عند منظري الأجناس ومفكريها.
كاتبة عراقية