تحتفل القاهرة. تضحك، أو بالأحرى ترسم ابتسامة ‘عشان الصورة تطلع حلوة’ لكنها لا تستطيع أن تخفي حزنها.
عرض أوبرالي هنا، مهرجان موسيقى هناك، معرض فني، أو عرس. فرصة أمام الرجال لتهوية بدلاتهم وأمام النساء لاختبار رشاقتهن، تدخين وثرثرة في فترات الاستراحة وابتسامات فيها من لطف المجاملة أكثر مما فيها من الانشراح.
يجتهد البشر لإخفاء حزنهم استكبارًا وتفاديًا لشماتة الآخرين أو رغبة في عدم إيذاء مشاعر الغير، بينما لا يحتاج تلمس حزن الحجر إلى المهارة التي يحتاجها استقراء وجوه البشر، لا يملك الحجر مهارة الإخفاء، وتبدو مشاعره كما هي بالضبط فتفضح حزن المدينة.
ليست القاهرة وحدها الحزينة؛ فابستثناء المنتجعات الشاطئية التي تتطلع دائمًا إلى الخارج، تعاني كل المدن المصرية من الحزن الذي تكابده العاصمة، وتبدو عليها جميعها علامات الشيخوخة المفاجئة. ومن دون أحكام حظر التجول الذي تقلص كثيرًا، تبدو المدن المصرية ممرورة، ولا يخفى على غير اللبيب أنها موضع تنكيل.
‘ ‘ ‘
المدينة، في الاشتقاق اللغوي والتعريف الاجتماعي هي أصل التمدن والتحضر، هي رحابة التعدد واحتواء الجميع بلا تمييز. ولهذا يضع الديكتاتور نفسه في خصومة مع المدينة، خصوصًا الديكتاتور المهزوم والمهدد، بينما يقبلها الديكتاتور المنتصر ليستخدمها مرآة لمجده؛ فينشيء ساحات الاحتفال الضخمة والشوارع الواسعة المستقيمة التي تصلح لعبور طوابير النصر وتسهل مراقبة سكانها.
ولندرة الانتصارات، كانت المدينة المصرية ـ والقاهرة رأسها ـ تحت العقاب بشكل شبه دائم. وصل الخصام بينها وبين الحكم إلى حد الرغبة في عدم رؤيتها في العقدين الأخيرين. وتمت ترجمة هذه الرغبة عمليًا في نقل الرئيس لإقامته إلى منتجع شرم الشيخ، بينما كان الرئيس الموازي (نجل مبارك) مع عصبته من سماسرة العقارات يسكنون ضاحية ‘التجمع الخامس’ الذي نشأ ضمن حزام الغنى حول المدينة المنبوذة.
المجمعات السكنية المحمية بالأسوار تشبه جيشًا من الغزاة يستريح على الأبواب منتظرًا رسول المدينة بالراية البيضاء في يد وبالأخرى إقرار الاستسلام.
وليست مصر مبتدعة نظام الضواحي الغنية بل مقلدة؛ فهو نمط من العمران معروف في كل دول التفرقة الاقتصادية الفجة. وتوفر هذه المعازل الآمان للمستغلين الذين يعرفون أن بينهم وبين المجتمع ثأرًا، وتحافظ لهم على أسرار تشبيكاتهم وصفقاتهم. وتتولى الدولة توفير خدمات هذه المجتمعات الجديدة المميزة من ميزانيتها المتعبة، بينما تترك المدن الأصلية للتداعي والفوضى. وهذا ما نالته القاهرة في ظل نظام مبارك (الأب والابن).
وقد صار حزام الغنى الثاني حول خاصرة القاهرة بعد حزام عشوائيات الفقر، وأخذ زحام المدينة يتصاعد، فتحاول الدولة علاجه بالمزيد من الجسور القبيحة التي تأكل فضاءات المدينة وتدمر جمال شوارعها، أما الميادين فكانت تتآكل وتتقلص مساحاتها عمدًا تحت زعم ضرورات بناء مكاتب خدمية أو تظل مشغولة بحالة من الأشغال المستمرة. وليس من قبيل المصادفة أن ميدان التحرير لم يخل من الإشغالات وعمليات الحفر منذ انتفاضة 1977 حتى اليوم!
ورغم كل محاولات تصفية مدنية المدينة قامت ثورة 25 يناير. وليس مصادفة أن أول عمل أقدم عليه الثوار هو طلاء أفاريز الجسور وتنظيف الشوارع، بينما كانت الفكرة الأولى هي إقامة تماثيل لشهداء القاهرة في ميدان التحرير وتماثيل مماثلة في ميادين كل المدن الأخرى.
لكن قوى الثورة المضادة التي سمحت بسقوط رأس النظام لم تسمح للثوار باسترداد المدينة، وبمعنى أصح: لم تسمح للمدينة باسترداد مدنيتها. مبارك يمكن تعويضه بديكتاتور آخر حليق أو ملتح، لكن عودة المدينة إلى مدنيتها لا يعني إلا تمام الانتصار للثورة، وهو ما لا يقبل به اللصوص.
وهكذا انفرض القتال على الثوار مباعدًا بينهم وبين أحلام المساواة والعيش الكريم وبينها الحلم بإحياء المدينة. لم يتوقف الكر والفر، وسقط من الشهداء بعد خلع مبارك أكثر ممن سقط في أيام الثورة الثمانية عشر، واشتعلت الحرائق التي استهدفت ذاكرة المدينة الثقافية والمعمارية.
‘ ‘ ‘
بعكس كل المماحكات السلمية والعنيفة بين حملة السلاح وحملة المصاحف والسلاح؛ فكلاهما يكره المدينة، وكلاهما أقام الحواجز وضاعف ارتفاعات الأسوار، وكلاهما حافظ للمدينة على انكسار البؤس الذي يضاعف حزنها. وكلاهما أقام ويقيم ويختفي ويخفي أسراره في ‘التجمع الخامس’.
وكلاهما لم يمد يدًا لإصلاح رصيف تآكل أو رفع تراب تكاثر، أو طلاء حائط تغبر واستحال لونه إلى السواد، يمتد الإصلاح فحسب للأرصفة والمباني التي تخربها احتجاجات الفصيل الآخر، بهدف إخفاء أثر الخصم لا حرصًا على المدينة التي يتخذها الفريقان خصمًا دائمًا. ويقترب الطلاء الجديد من الجدار بهدف قتل صورة شهيد، ليكون اللون الأبيض القتل الثالث للشهيد بعد قتله الأول بالرصاص والثاني بعدم القصاص.
والمدينة التي تحب أبناءها تتضامن معهم؛ وتستقبل جدرانها المغبرة، بكل حنان، رسومًا جديدة لشهداء جدد، أو بعثًا لرسوم قديمة قتلها الصباغ على جدران المباني أو على أحجار الجدران العازلة القبيحة.
ولما كانت الجدران العازلة غير كافية وحدها لفرض العزل والترويع، جاء الباعة الجائلون يسدون الشوارع بغابة من علاّقات الملابس المستعملة التي يزيدها الغبار بؤسًا.
عدد ضخم من الباعة لا يناسب عدد الزبائن المحتمل، وكأنهم لم يقفوا هكذا إلا لترويع المارة وإعاقتهم، والأهم هو إجبار المدينة على عرض أشيائها الحميمة. بنطلونات وقمصان وبدلات وملابس داخلية تحمل روائح أصحابها معروضة في أهم شوارع قلب القاهرة. أي نوع من التشهير هذا؟!
والمدينة، رغم كل الإذلال، تحاول أن تبتسم أو بالأحرى تحاول أن ترسم ابتسامة من أجل جمال الصورة، أو خجلاً من الاعتراف بالهزيمة، أو ربما إغاظة لمعذبيها، مثلما يفعل طفل عنيد يتحدى التأديب.
ماشاء الله …
إنت بتجيب الأفكار دي منين …
رغم الفارق في الثراء و الفقر بين الخرطوم و القاهرة لكن تبقي الفكرة واحدة. طبقة حاكمة معزولة عن شعبها . في مقابل التجمع الخامس بالقاهرة تجد كافوري بالخرطوم حيث تسكن حاشية الرئيس و أقاربه. اما عن المسورات فلدينا الياسمين و اراك و عشرات غيرها يصعب علي حصر اسماءها فيها كل الخدمات ابتداء من الأمن عند الدخول عبر بواباتها و الي آخر ما يحتاجه الساكن.
في مقابل ذلك تجد شوارغ مغبرة خالية من النظافة مزدحمة خالية من النظام مستشفيات تصلح لأي مسمى غير اسم مستشفي . علمونا أن المستحيلات ثلاث في السودان المواصلات هي رابعها. نكابد منذ ان تصبح الدنيا من أجل لقمة العيش في زمن وصل فيه رغيف الخبز من الصغر بحيث يمكنك قضم رغيف كامل في قضمتين اثنين مع ارتفاع السعر. أن تعبس هو القاعدة عندنا و لكن رغم ذلك نبتسم ليس للنكته التي علي مزاجنا (كما الإخوة المصريين) و لكن لإننا ما زلنا شعبا به بقايا فطرة.
(لكن قوى الثورة المضادة التي سمحت بسقوط رأس النظام لم تسمح للثوار باسترداد المدينة، وبمعنى أصح: لم تسمح للمدينة باسترداد مدنيتها. مبارك يمكن تعويضه بديكتاتور آخر حليق أو ملتح، لكن عودة المدينة إلى مدنيتها لا يعني إلا تمام الانتصار للثورة، وهو ما لا يقبل به اللصوص.)
(بعكس كل المماحكات السلمية والعنيفة بين حملة السلاح وحملة المصاحف والسلاح؛ فكلاهما يكره المدينة، وكلاهما أقام الحواجز وضاعف ارتفاعات الأسوار، وكلاهما حافظ للمدينة على انكسار البؤس الذي يضاعف حزنها. وكلاهما أقام ويقيم ويختفي ويخفي أسراره في ‘التجمع الخامس′.)
في الفقرتين اعلاه من المقال خلط واضح بين الصالح والطالح وبين الظالم والمظلوم . المظلوم الذي تعرض للظلم مرتين الاولى من الديكتاتور الحليق ومؤيديه والثانية من الكاتب وأمثاله الذين لا يفرقون بين الصالح والطالح وبين الضحية والجلاد.