«القاهرة-كابول» معالجة درامية للإرهاب خارج النطاق المحلي

كمال القاضي
حجم الخط
0

تنوعت المُعالجات الدرامية المصرية الخاصة بقضايا العنف والإرهاب بتنوع الآراء والثقافات وزوايا التناول، لكن القليل منها هو الذي اعتنى برصد مواطن التطرف وأسبابه وذهب بعيداً عن النطاق الجغرافي المحلي، مُتتبعاً خطوط وخيوط الأزمة منذ بداياتها وحتى تفاقمها، مروراً بكافة التفاصيل الكبيرة والصغيرة، مصادر التمويل والعمليات والشخصيات والتجارب الإنسانية والشخصية في رحلة قادة التيارات العائشين في الصحاري والجبال، والمتأزمين بأفكارهم ودوافعهم والحاملين لشعار دولة الخلافة التي يسعون لتأسيسها ويتحملون في سبيلها عناء المطاردة والشتات والقتل.
المسلسل يقدم بانوراما مُتكاملة ليس عن الإرهاب فحسب كنتيجة للطموح والجموح والمجازفة بالأرواح والأموال، وإنما يطرح للتداول ما يشبه الدراسة الاجتماعية والنفسية للعناصر المتورطة في جرائم العنف على خلفيات عقائدية تدفع بهم إلى بذل الغالي والنفيس بلا تردد جراء تحقيق أحلامهم البعيدة التي تمثل خطاً عريضاً يقودهم إلى مئات الخطوط الدقيقة الفرعية فتزداد المشكلة تعقيداً مع كل تطور لأحلام القادة ومشروعاتهم الطموحة غير المنظورة.
«القاهرة-كابول» عنوان يوحي بوجود خط إنتاج للإرهاب والإرهابيين مصدره القاهرة ونهايته كابول، وهو الخطأ الذي لم ينتبه إليه صُناع المسلسل، حيث أن المنطق بحسب المقصود والمُستهدف درامياً يستوجب أن تكون كابول مقدمة في العنوان على القاهرة لتُصبح الدلالة في محلها، فكابول هي المنبع والمصب، بينما القاهرة هي المجرى، وهذا هو الخطأ المبدئي في المُفتتح الدرامي والموضوعي للمسلسل الذي يتزعم بطولته طارق لطفي أو «رمزي» وهو الخليفة الذي يشير إلى شخصية أسامة بن لادن، وتدل ملامحه وسمته العامة وطريقة حديثه وملابسه على ذلك، مع الأخذ في الاعتبار أن اختيار اسم رمزي لم يكن سوى تأكيد للإشارة الهادفة إلى رمزية الشخصية الأساسية التي تقترب كثيراً من بن لادن باعتباره محوراً للأحداث.
ويضاف إلى تلك الملاحظة ملاحظة أخرى على نفس المستوى من الأهمية وهي تشابه شخصية الرجل الثاني في التنظيم مع شخصية أيمن الظواهري، أي أن البناء الدرامي للمسلسل يقوم على أعمدة تأسيسية قوامها الشخصيات القيادية المؤثرة والفاعلة التي تزعمت في مراحل مُبكرة حركات العنف والتطرف لسنوات وشكلت ملامح الصورة الواقعية للقضية المُستعصية من وجهة نظر المؤلف والمخرج وبناءً على المراجع التي تم استقاء الأحداث منها لتكون سندات ووثائق تُبرر مجالات الطرح الإبداعي والفني فلا تكون هناك فرصة للتشكيك في الرؤية العامة أو التفاصيل.
الصراعات الدائرة بين الخليفة والتابعين له من بقية المجاهدين تأتي في النسق الدرامي على استحياء لتأكيد المصداقية. فالمعهود في التنظيمات الدينية السياسية أن لا تظهر الصراعات الجوهرية على السطح حفاظاً على كيان التنظيم وقوته، وهو اللافت بالفعل في التناول الدرامي، حيث تأتي الخلافات بين كبار القادة والخليفة في الدولة الافتراضية كأنها سحابة صيف، سرعان ما تنقشع، وذلك حتى لا يتأثر الرعية والأتباع بها فيتعرض جسم التنظيم للتصدع والانهيار، وهي قمة الحكمة في إدارة الدولة الناشئة في أغوار الجبال والمُحاطة بالأخطار من كل الجهات، وهذا مبدأ الحيطة والحذر المُتبع عادة عند الغالبية من زعماء التنظيمات قاطبة.
في مشهد بالغ التأثير الدرامي والإنساني، يفاجأ الخليفة طارق لطفي المُلقب برمزي بضربة غادرة من عيار طائش في ظهر ابنه الطفل ذو العشرة أعوام على أكثر تقدير، وهو جالس معه يُلقنه دروس الحكمة كي يفطن لما حوله من مشكلات وصراعات، محذراً إياه من التفريط في حق الدعوة التي تم تكليفهم من الله بها ليتموها على الوجه الأكمل، في لحظة التلقين التاريخية يُقتل الطفل في حضن أبيه فيُفجع الخليفة ويبكي بكاءً مراً، ويعقد النية والعزم على أن يثأر لابنه الشهيد الذي قُتل غدراً، في مشهد مفصلي وشديد الأهمية يترجم مشاعر الأب الفطرية بعيداً عن المكون الفكري والثقافي الذي لولاه ما وصل الرجل إلى ما وصل إليه، وما قُتل ابنه بين أحضانه غدراً من خصومه السياسيين المتمردين عليه والطامحين في تولي عرش الخلافة بدلاً منه. ملمح عابر في قصة الجهاد والدم ومملكة الخلافة، لكنه شديد الثراء والبلاغة وقوي الوقع والتأثير، هذا في ما يخص الحياة في الصحاري موطن الاقتتال والموت، أما ما يتعلق بالأحداث على الجانب الآخر في القاهرة، فهو تنويع آخر على مأساة الأسر والضحايا الذين وضعوا في أتون النار غير عابئين بالعواقب، لأن ثمة جوعا وفقرا واضطرابا يواجههم بلا حماية، فهم يقفون في مُفترق الطرق وكل المسالك تؤدي إلى الهلاك، ومن ثم لا فرق عندهم بين الموت جوعاً في القاهرة أو الموت صرعاً في كابول!
يركز الجزء الخاص بالتراجيديا الإنسانية على المحاولات الأمنية لرصد بؤر الإرهاب في الأحياء الشعبية وتتبع خيوطها واقتفاء أثر أصحابها، وهو المضمار الذي يجتهد فيه ضابط الأمن الوطني الذي يؤدي دوره ببراعة متناهية خالد الصاوي، وكذلك حنان مطاوع تلك الممثلة المتمرسة على كل الأدوار، نراها في دور جديد ومثير، امرأة عادية من عامة الشعب تفطن إلى خطورة ما يحدث من حراك سريع لجماعات العنف ونشاطاتها المعادية التي من شأنها تقويض الحياة الطبيعية وتعطيلها والدفع بخيرة الشباب إلى الهاوية، فتقرر التطوع بتقديم ما لديها من معلومات لإيقاف نزيف الدم وتحجيم المخاطر، وهو دور إنساني يبدو بسيطاً للغاية لكنه من الصعوبة بمكان من حيث التقمص والأداء لأن مساحات الانفعال فيه قليلة، ومن ثم يحتاج إلى جهد أكبر لتوافر درجة الإقناع المطلوبة بالشخصية الدرامية.
«القاهرة-كابول» دراما مُتعددة المستويات والأبعاد وتمثل قفزة للأمام في مسار المعالجات الأمنية والنوعية لقضايا الإرهاب والعنف وما يترتب عليها من نتائج وآثار سلبية وأضرار مُجتمعية يدفع فواتيرها المواطن البسيط، القاطن في كابول أو القاهرة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية