القدس/ الرقص على اللغة

حجم الخط
1

المصطلحات في اللغة عامة وفي اللغة السياسية بخاصة لها دلالات قلّ ما ينتبه إليها الناس لا سيما عندما تنزل للمرة الأولى. وغالباً ما نلاحظ شيوعاً لعدد من المصطلحات التي تظهر دفعة واحدة وفي الوقت ذاته لتشكل خطاباً أو سردية متماسكة تعكس رؤية محددة للكون وشكلا خاصاً لتمثيلاته وفهمه. لا ندري بالضبط إن كان حدوث ذلك التغيير بالمفردات تحدده بروز تحولات أو أحداث كبرى في الواقع الذي تعيشه الشعوب لكننا على أي حال لا نشك لحظة بأنها مترافقة دوماً مع نوع حاد من التغيير في بنى المجتمعات السياسية والإجتماعية والثقافية.
من منا، من جيل عايش مرحلة أطلق عليها ‘ مرحلة التحرر الوطني’ العربية أو حتى جزءا منها، لم يلحظ التغيّر الهائل الذي أصاب بنية اللغة السياسية العربية ومصطلحاتها كما تعكسه الشعارات المستعملة حالياً أو كما تعبّر عنه وسائل الإعلام بكافة وسائطها.
من منا لم يلحظ أفول مصطلح ‘التحرر الوطني’ لحساب مصطلح ‘تحرر الإنسان’ مثلاً. أو إندثار مفهوم ‘حق الشعوب في تقرير مصيرها’ نهائياً لكي يحلّ محلّه مصطلح، حقوقي أيضاً هو الآخر، لكنه يقفز عن ‘الشعوب’ الى الإنسان، الى حقوق الإنسان. وعندما كان مصطلح تقرير المصير دارجاً كان هناك مصطلح مرافق له كظله هو مقاومة الإحتلال كحق مشروع. ولما أختفى الأول من التداول أختفى ظله طبعا معه. فانحاز الكلام الى مصطلح جديد هو الإرهاب.
في المجال الحقوقي الفارق هائلٌ. المصطلح الأول، المقاومة، حق لك . بينما في الثاني، الإرهاب، فحق عليك. الإنزياح، كما يبدو تدريجاً، ليس لغوياً صرفاً بل هو يحمل مضامين فكرية وحقوقية جد مختلفة. فالسلوك ذاته الذي كان مشروعاً، قانوناً، أي شرعياً، تحوّل فجأة وبواسطة تحويل لغوي الى جريمة.
كانت اللغة تتحدث عن إحتلال الصهيونية لأرض فلسطين فصارت تتقبل مصطلح ‘العودة’. حقوقياً الفارق شاسع. الاحتلال دواؤه القانوني المقاومة والرفض حتى التحرير، وأما ‘العودة’ الى ارض الميعاد فدواؤها ‘قبول الآخر’ واقتسام الأرض الى دولتين. الإحتلال يتعاطى عادة مع ‘مواطنين’ أما ‘العائدون’ فيتعاطون مع ‘سكان’ غزة و’سكان’ الضفة و’سكان’ إسرائيل العرب.
كانت اللغة تشير الى المواطن الذي يرتضي لنفسه القيام بعملٍ سياسي ك’مناضل’ لا كناشطً سياسي. المناضل صاحب قضية حقة وينتظم مع مجموعة في إطار حركةٍ فكريةٍ سياسيةٍ إجتماعيةٍ أو حزب عقائدي ينظم الأفكار والرؤى والمشاريع والسياسات والأولويات الموصلة الى الهدف. أما ‘الناشط’ في اللغة الجديدة ففرد ينتمي الى حاسوبه ويرفض العقائد (السامة من حيث الجوهر). صار الناشط آداة تواصل لا عضوا في حزب ينظم نضالات القوى الإجتماعية بل فرداً يبحث عن حقوقه كإنسان، كفردٍ لا كعضو في مجتمع منهوبة ثرواته مثلاً أو مواطن محروم من الوطن ومن بناء الدولة القادرة ومن إمكانية اختيار نمط العيش المناسب لبلده.
في أقل من جيل واحد تعرضت اللغة ومصطلحاتها الى انزياح شبه كلي يعزوه البعض الى تحولات فكرية أصابت العقل العربي نتيجة إخفاقه في خياراته التاريخية وفي إتمام المهام التي كلف نفسه بها. المراجعة إذن والنقد الذاتي الناتج عن الخيبات المتكررة هما، بحسب غالبية الكتّاب العرب، المسؤولان الحقيقيان عن التحولات التي طالت بنية اللغة السياسية وخطابها المهيمن اليوم. يقول أنصار هذا التحوّل ان العقل المحلي انتهى بأن اكتشف علّته الكامنة فيه لا في خارجه.
التخلف السياسي والإقتصادي والإستبداد والنسيج الإجتماعي المفتت والدولة المهلهلة والبطالة والحكام المعينين من الخارج والمحميين به والتصحر والسكن في القبور ليسوا إذن بسبب الإحتلال، الذي طال الأرض وما تحتها فحرم الدولة من النشوء لحرمانها من مواردها، بل بسبب تخلّفٍ عقلي موجود فينا بسبب رفضنا لـ’حقوق الإنسان’ الكونية ولقيم ‘ المجتمع المدني’.
بالحقيقة كان يمكن الإقتناع بهكذا حجج لو كانت المصطلحات المستعملة والتي درجت وصارت على الموضة مصطلحات محلية بنت بيئتنا وخاصة بنا. أما وان المفاهيم الدارجة ‘عالمية’، فالتفسير المحلي لم يعد كافياً أو مقنعاً. مفاهيم ‘حقوق الإنسان’ والديمقراطية وقيم ‘المجتمع المدني’ والدولة ‘المدنية’ ليست مفاهيم مقتصرة على دنيا العرب دون سواهم بل هي مفاهيم كونية اليوم معروضة في سوق الأفكار كحلول دولية شاملة وصالحة لكل زمان ومكان.
من المفارقات الموحشة في هذا المجال أن اللغة الجديدة المهيمنة وإن كانت تتميّز بالأساس بحقوق الإنسان غير أن هذه الحقوق لا تتضمن حقوق دول وشعوب هذا الإنسان في ارضها مثلا أو ثرواتها ومواردها وكيفية استعمالها. اللغة الجديدة تقتصر مهمتها على تحرير الإنسان المقموع دون تحرير بلاده أو تحرير قرارها. فهل التحرير الفردي ممكنٌ بدون الدولة الحرّة ؟ هل الحرية الفردية ممكنة نظرياً بدون تحرير المجتمع من روحية الجماعات الأهلية المسيطرة على إجتماعه؟ هل يمكن إعطاء الفرد حرية الإنتخاب الديمقراطي في ظل غياب الفرد المواطن بسبب غياب الدولة ؟
على أي حال فإن ‘عالمية’ المصطلحات الجديدة المسيطرة على عالمنا الحالي قادت الى عولمة اللغة وتوحيدها وإدخالها في قوالب مرصوصة تشخص المشكلة ذاتها في كل بقاع الأرض وتقترح ذات الحلول لكل الأمراض. وبالرغم من عالميتها وعولمتها فإن هذه اللغة نسيت ربما أن العالم اليوم ليس جزراً متوازية ومتساوية الوزن والحجم والقوة. قد تكون نسيت مثلا أن الحرية الفردية غير ممكنة في ظل دولة غير حرة نظرأ لتبعيتها لمهيمن خارجي سياسي أو إقتصادي. الديمقراطية هي بابسط تعريفاتها سيادة الشعب فكيف تكون ديمقراطية إذا حرمنا الشعب سلفاً من السيادة على مقدراته السياسية والحياتية؟
عندما تنحاز اللغة تقصي مصطلحات وتدلل أخرى. عندها تصير تصفية شعب بأكمله كما احتلال أرضه.. ‘إكتشاف’ أميركا.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابو سامي د.حايك:

    الحقيقه عاريه لا تدافع عن نفسها إلا بنفسها و لا يمكن أن تكون شيئا آخر و لكن يمكن التشكيك فيها بخلق احتمالات و مشابهات و هذا ما تفعله وسائل الإعلام المدسوسه لبلبلة الرأي العام بتحويل الحقيقه إلى رأي يمكن التشكيك فيه أو معارضته و تجعل صاحب الجريمه طرفا متساويا مع الضحيه في نزاع مختلق و منذ قيام الدوله الصهيونيه يتحدث العالم عن النزاع العربي الإسرائيلي و كأن إسرائيل كانت موجوده و حصل نزاع بينها و بين “جيرانها” العرب و تسمي إسرائيل إغتصاب فلسطين “حرب الإستقلال” و تسمي جيشها المغتصب “جيش الدفاع” وتَحَوَّل “النزاع” في قطاع من الجانب العربي الفلسطيني و في عرف الحلول المطروحه من “المجتمع الدولي” إلى كفاح “لإنهاء الإحتلال” ا و مساعي ل “حل الدولتين” و هكذا نشأت على هذا النمط بنايات إعلاميه وهميه شاهقه من الكذب و التمويه بجانب بنيان الحقيقه المتواضع و الغرض من ذلك هو طمس الحقيقه أو إظهارها بأنها شيئ لا أهمية له. و النقطه الأهمّ هي أنه علينا أن نعمل على كشف هذه الأكاذيب و ننبه إليها و نحذّر منها في كل مناسبه فهي وباء ينزل في الرأي العام و يحوله إلى عميل للكذب و في نهاية الأمر يصبح شريكا في الجريمه دون علمه

إشترك في قائمتنا البريدية