كثرت الكتابات عن مفهوم القصة القصيرة جدا، عن مميزاتها وطرق كتابتها وخواصها، وما يميزها عن القصة القصيرة، من أنها يجب أن تكون بكلماتٍ قليلةٍ ومختزلةٍ، ولها فكرةٌ محددة، وغيرها من التوصيفات التي لا تنطبق فقط على هذا النوع الأدبي السردي، بل هي مواصفات كل عمل إبداعي مهما كان نوعه. فالاختزال صفة جامعة، وكذلك اللغة وحيثياتها والزمن وتوابعه، والمكان وتشعباته، والفكرة ومحدداتها، والحكاية ومغزاها والغاية وقصديتها، وهو أمر لا يمكن قبوله في جنس أدبي ورفضه في جنس آخر، باعتبار أن هذه (المرتكزات) جامعةٌ شاملةٌ عامة، حتى للرواية وإن بدت هي أكبر في معالمها وأوسع في شخوصها وتنقلاتها، لكنها لا تقبل الزيادة في أي مما ذكر.
إذن كيف يمكن لنا الوصول إلى معالم القصة القصيرة جداً؟ ما هي المرآة الجامعة التي يراها المتلقي ليقول إنه قرأ قصة قصيرة جدا، ولم يقرأ قصة قصيرة؟ ما هي الأدلة التي تثبت أن ما كتب هو قصة قصيرة جدا وليس نصاً نثريا، هو مُطالبٌ أيضا بالاختزال والتكثيف واللغة الغائية وغيرها؟ وربما يشْكل على هذا النوع السردي أنه يحايث، إن لم يشابه، النص النثري، وإلا من يميز هذا النص إن كان نصا نثريا (ضياع/ عبرت الشارع لأنام.. وتركت البيت خلفي) فإن الأفعال والصفات والفواعل موجودة ومتوفرة، والاختزال متوفر والقصدية على التأويل حاضرة، حسب المتلقي في كيفية فهمه للنص. لكن هل سيتفق الجميع على أنها قصة قصيرة؟ ماذا لو تم إنزال الجزء الثاني وتركت البيت خلفي، أسفل الجزء الأول عبرت الشارع لأنام.. هل سيكون نصا من نصوص الومضة مثلا؟ أم سيبقى محافظا على روحية جنسه؟ ماذا لو أضفنا كلماتٍ أخرى للنص، كإضافة شخصية جديدة (أوقفه صديقه في منتصف الطريق.. كان مثله قد ترك البيت خلفه) هل يمكن أن تبقى محافظة على جنسها؟
إن الإجابات والسبل والطرق متعددة، مثلما هي الصفات كثيرة، وإن المتحدثين عنها كثيرون، وكل يدلو بدلوه في معيارية هذا الجنس الأدبي، الذي تفاعل معه الكثيرون، وأصبح جنسا قارا لا يمكن نكرانه، وإن دخل عليه الطارئون فهو أمر طبيعي تتعرض له كل الفنون والإبداعات الأخرى، وهو أمر مهم أيضا لكي يتمكن المتلقي من تمييز الغث من السمين، كما يقال، وتمييز المبدع من السارق أو المقتحم للمجال الكتابي بلا موهبة حقيقية. ولذا فإن من الممكن طرح رأيٍ في موضوع (القصة القصيرة جدا) مستلهم ومستوحى من القراءة والكتابة والرأي الشخصي، بعيدا عن مقولات الآخرين من النقاد والكتاب والمتعاطين، والمطالبين بفلسفة الرأي، وإن اقتربنا منهم قليلا أو حتى تشابهنا.
1ـ القصة القصيرة جدا هي فن اللذعة الواحدة، التي لا تأخذ حيزا معينا من الحياة، كما هو في القصة القصيرة، بل هي تأخذ جزءا من الجزء لتجعله عاماً .
2 ـ القصة القصيرة جدا تتمتع بميزات البحث عن مدلولات اللغة وتفريغ شحنات الفكرة فيها وتذويبها، لتكون هي الفاعلة في استنطاق الداخل التعبيري من جزء الجزء من الحياة.
3 ـ القصة القصيرة جدا لا تقبل التجزئة في المناورة القصصية والتحول من العام إلى الخاص، وبالعكس، بل هي تسير في اتجاهٍ واحدٍ للوصول إلى هدفية الغاية.
4 ـ القصد القصيرة جدا يكون العنوان جزءا من المتن السردي وليس ثريا النص، بمعنى إن فلسفة العنوان هنا أكثر فاعلية منها في القصة القصيرة، لأنه جزء من التدوين والفكرة والارتباط التأويلي العام، ولا يمكن تركه والبحث عن مكامن الإبداع في المتن، ما بين الاستهلال والنهاية. ولهذا نجد الكثيرين من متعاطي هذا الجنس يجعلون العناوين وكأنها عناوين قصص قصيرة.
5 ـ القصة القصيرة جدا لا تمتلك حكاية تحكى، بل فعل حكاية لجزء مختار من جزء الحياة/ الواقع/ المخيلة.. وإذا ما تمت حكايتها (سالفتها) فإنها تتحول إلى قصةٍ قصيرة، وإن كانت بعدد كلمات أقل.. بمعنى إنها تحكى كتأويل أكثر منه فعل حكاية.
6 ـ القصة القصيرة جدا تعمل على تفعيل وتثوير عنصر الدهشة من خلال اللغة القادرة على الإتيان بعناصر التأويل والقصدية وحتى المعنى المراد طرق أهدافه.
7 ـ القصة القصيرة جدا لها نهاية تختلف عن نهايات القصة القصيرة، كونها تعتمد على المفارقة، وليس على تصاعد الحدث في الحكاية، أي وجود المفاجأة التي لا يتوقعها المتلقي.
8 ـ القصة القصيرة جدا لا تحتمل التفسير المباشر، بقدر ما تحتمل التفكير الواسع في ماهية الفكرة المراد طرحها، وبالتالي التماهي معها.. ما يعني إن فكرتها لا تطرح مباشرة.
هذه بعض النقاط، وبالتأكيد هناك نقاط أخرى كثيرة يمكن للدارسين أن يشكلوا منها دراسات، كما شكلت الآراء الأخرى.. وإن الأمر لم يكن بمنهجية الأكاديمي في طرحنا لهذا الرأي بقدر ما هو حاصل جمع التجربة الكتابية والقرائية.
كاتب عراقي