إن ما تشهد به مواضعات التطور الحياتي، وما تتجه نحوه مرحلتنا ما بعد العولمية، وما يطرأ على الأدب من تطورات إبداعية تماشي تلك المواضعات، وتنساق في إطارها بقصد أو غير قصد، كل ذلك يجعل أمر التوقع لجنس القصة القصيرة بالهيمنة والتصدر على سائر الأجناس الأدبية الأخرى، توكيديا وصميميا. ولا سبيل لبلوغ نظرية متجانسة وشاملة في القصة القصيرة من دون الاقتناع بأن لا شكل محدد القصر يمكن أن نحصرها فيه، إلا وهو متواتر في إجناسيتها قصيرا كان أو أشد قصرا أو متوسط القصر. وهذا التفاوت في تحديد مستوى القصر، هو سر جمالية القصة القصيرة، التي تجعلها تيارات النقد ومناهجه وفلسفاته متسمة باللاقاعدة في القصر أو الاختزال أو التسلسل.
أما وتيرة التنافس في ابتكار الأشكال السردية في القصة القصيرة، فتظل محتملة بقوة على الدوام، أكثر من أي من جنس أدبي آخر، وهو ما يصب في صالح التوقع بأن المستقبل لإجناسيتها. ولولا طبيعتها المرنة في إطار تشكلها البنائي وطبيعة قالبها المتمنعة على التقييد في حد من الحدود، لما كان للعبور فيها حضور مهم ومميز بهوية واضحة.
وليست سمة القصر في القصة سوى محدد من مجموعة محددات، هي حصيلة التمثيل الثيماتي والاشتغال التقاني، والتعالق النصي والخارج نصي في القصة القصيرة، ومن مجموعة هذه المحددات يتشكل قالبها. وإذا كان القالب في حدوده المعيّنة ومسافاته المحسوبة، يعني أنّ أي فكرة تصب فيه ستأخذ شكله، فإن الاحتواء سيكون سمة القصة القصيرة، التي بها تغدو الأشكال محتواة في قالب القصة القصيرة، التي برأت من عشوائية التقولب، فعافت الرسوخ، لكنها ظلت قابلة بالتقعيد، وجانبت الثبات غير ميّالة إلى التسمر عند معطيات قد تحجّم حدودها. وهذا كله سمح لها بتجسير صلاتها بأنواع سردية أخرى قريبة منها شكليا أو أقل منها تاريخيا.
وتعد القصة القصيرة جدا أو الأقصوصة والومضة والحدوتة والحكاية والمثل والنكتة أو القفشة والخاطرة أنواعا سردية، لا تملك إمكانية التشكل الاجناسي تاريخيا ولا فنيا. لكن القصة القصيرة بقابليتها على مدّ الصلات تستطيع أن تحتويها في قالبها، فتتداخل معها لتصهرها وتعيد إنتاجها ضمن حدود شكلية ومسافات جمالية معلومة ومحسوبة. وفي المقابل ستفقد الأنواع السردية القصيرة السابقة أي ملمح يدلل على أن لها قالبا خاصا، بعد أن احتواها قالب القصة القصيرة الذي بميوعته تتوكد عمليتا التهجين والتجنيس عبورا من النوع إلى الجنس، فتتلاشى فكرة النقاء في الجنس، ليستعاض عنها بفكرة التداخل، ثم العبور ما بين الشكل والإطار. وكثيرة هي الاحتواءات الشكلية التي تستوعبها إجناسية القصة القصيرة فتهضمها، وتجعلها متمثلة بها شكلا ومضمونا. وسمة الاحتواء قبل أن تكون تجريبا أو تفننا أو تجنيسا أو أسلوبا أو قالبا؛ لا تخلو من مماثلة حياتية فيها يتم اختصار العالم في لحظة مستقطعة من الزمان تجسدها القصة القصيرة، وبالتأمل والغور تبدو تلك اللحظة المخصوصة كأنها هي الحياة كلها.
وبامتلاك القاص القدرة على تجسيد اللحظة سيمتلك سلطة تحجيم الزمان، مقابل جعل المكان مهيمنا بوصفه عنصرا محوريا قادرا على أن يُذيب الفرد في المجموع. ومن هذه الإذابة المكانية والفردية اتخذت القصة القصيرة تجذرها العميق في تاريخ الأدب وتميزها الإجناسي في السرد.
انشغل نقاد السرديات كثيرا بالكيفية التي بها يجوز لكاتب القصة القصيرة أنْ يعبِّر عن اللحظة التي يقتنصها من أعماق الزمان الذي فيه تتجمع اللحظات على سعتها، جاعلا شخصيته تعيش تصارعا مع تلك اللحظة.
إنَّ السمة الجوهرية التي يتمتع بها هذا الجنس، هي قدرته على تلبية بعض من تطلعات القاص في موازاة الزمن، والتحكم به أو التماشي معه وتوجيهه لصالحه. وما اختصار الزمن التاريخي في لحظة، سوى تطلع وجودي نحو جعل اللحظة زمنا سرديا معادلا للزمن الفيزيقي كله، بها تطارد الشخصية الثواني والدقائق، وقد ملأت فراغات الحيز المكاني، أو ما تسميه سوزان هارفر (الفجوة الوجودية) التي تشبه الخندق الوجودي بين شكليّ التجربة التي ينبغي أن تتكيف مع ما يقع على الجانب الآخر منها، وهو عالم القصة. والحدث السردي في القصة القصيرة، وإن كانت مدته طرفة عين أو حلم يقظة أو لفتة انتباه؛ فإن المفارقة الزمانية فيه هي أساس القصة القصيرة، وقد اجتمع فيها المتضادان الهيمنة والتبعية. فأما الهيمنة فللقصر الكتابي، وأما التبعية فللزمن التاريخي والسردي معا، وهذا ما لا تستطيعه الأجناس الأخرى ومنها الرواية. ولا عجب في أن يكون بناء الزمان أهم تحد من تحديات الكتابة القصصية أو الروائية، ولهذا تطورت أنساقه بتقانات بنائية تتفاوت في الديمومة والتنوع عبر الاستعانة بالوعي تارة والارتكان إلى اللاوعي تارة أخرى. وتتأتى سيطرة القصة القصيرة على الزمان من قدرة هذا الجنس المكانية على الاحتواء، التي بها يحكم القاص سيطرته على العالم الذي يضيق نطاقه، فينظر إليه مذوتنا في الشخصية، ومختصرا في اللحظة الزمانية المقتنصة من بين زوايا نظر جديدة، كل زاوية تمكنه من أن يلتفت فيها إلى نقاط منزوية لينظر إليها بميكروسكوبية، فتبدو كبيرة مع أنها صغيرة. وقد تصبح مهمة مع أنها قد لا تكون في بادئ الأمر ذات أهمية.
وبالاحتواء السردي يؤكد كاتب القصة القصيرة كينونته المتفردة في التحكم بالعالم من حوله، برؤيا اختزالية تستبعد الواضح والكبير والمهم والمشخّص والمعروف، مستعيضة عنه بالمعتاد البعيد، الذي هو ليس مهما في عموميته ولا أساسا في شموليته، بينما يغدو ما هو خصوصي وذاتي هو المهم والمقدم. والغاية جعل المغمور مشهورا، والذاتي موضوعيا، والخاص عاما، والمحدود لا محدودا. وبهذا يتوازى الموضوع الذي يكتب مختزلا ومحددا بالتمام مع الشكل الذي يتقولب في مسمى القصة القصيرة. وعندها سيكون الموضوع في قصره، واختزال شكله في قالب القص القصير، مفترقا عن تطويله وتفصيله في قالب قصصي كبير مثل الرواية. والمتحصل حينئذ هو إعادة رسم خريطة الواقع المعيش نصيا.
لكن ما الذي يجعل إجناسية القصة القصيرة مميزة برغبتها في مضاهاة الرواية أو التفوق عليها ؟ وما السمات الجمالية التي بها يحق للقصة القصيرة تناول الموضوعات بذوتنة تتعالى على الزمن وتتغلب عليه؟ وما الذي يجعل لسرد اللحظة إمكانيات اختزال زمانية الثانية والدقيقة والساعة واليوم والشهر والسنة؟ أليس للقالب الذي تصاغ فيه القصة القصيرة اشتراطات بها تجوز عملية اختزال العالم برؤية ضئيلة في زمانها، لكنها ممتدة في اللازمان؟
لقد انشغل نقاد السرديات كثيرا بالكيفية التي بها يجوز لكاتب القصة القصيرة أنْ يعبِّر عن اللحظة التي يقتنصها من أعماق الزمان الذي فيه تتجمع اللحظات على سعتها، جاعلا شخصيته تعيش تصارعا مع تلك اللحظة. وغالبا ما يكون هذا التصارع مؤلما ومشوبا بالتأزم الذي ينتهي بانتهاء اللحظة فيتحقق التوهج. وأهم معضلة واجهت هؤلاء النقاد معضلة الاحتواء المكاني لزمانية اللحظة ومنطقية تجسيدها، من خلال حدث يقوم به فاعل سردي واحد على الأغلب، وبأدائية دينامية تترجح عبرها كفة الذات التي صارت تعي وجودها، وتملك رؤية للعالم ماضيا وحضورا وتقدما. بما يجعل مكمن التأزم السردي هو الذات التي بمجرد احتوائها اللحظة مكانيا، تنتهي معاناتها وينفرج تأزمها، وبغض النظر عن مقدار القصر في اختزال الاحتواء، لأن المهم هو أن يكون السرد متمشكلا من جراء التعادلية، بين تجسيد الفكرة تجسيدا مكانيا مكثفا في قالب مختزل، وبين احتواء عناصر نوع آخر وصهرها في قالب. ولا فرق في ذلك بين أن يكون هذا النوع قصيرا أو أشد قصرا.
والحقيقة أنَّ تجسيد المكان هو الذي يفضي إلى احتواء الزمان، أي أن الفكرة هي التي تفرض على القاص طبيعة الاحتواء في القصص التي يكتبها، وبالشكل الذي يحتِّم عليه أن يكون في وجود الذات تجسيدا واحتواء وجود الآخر، حيث لا حدَّ يفصل بينهما ولا اختلاف يحيد بأحدهما عن الآخر. بهذا يصبح الحديث عن التجسيد السردي للحظة المعيشة هو الحديث نفسه عن التجنيس الكتابي لسردية تلك اللحظة، التي منها تتخذ صورتها النهائية التي بها تتميز القصة بقصرها في حدودها المعلومة والمعبرة عن فرادتها جنسّا من أجناس السرد. أمّا مسألة التحديد العددي أو الكمي لمساحة الكتابة على فضاء الورقة، فذلك ما يظل مائعا لأن عدد الأسطر وحجمها لن يغيّر من الأمر شيئا، ما دام الاحتواء حاصلا بالميوعة ومفروغا منه بالتجذر أصلا.
٭ كاتبة عراقية
إجناسية القصة القصيرة مميزة برغبتها في مضاهاة الرواية أو التفوق عليها ؟ وما السمات الجمالية التي بها يحق للقصة القصيرة تناول الموضوعات بذوتنة تتعالى على الزمن وتتغلب عليه؟ وما الذي يجعل لسرد اللحظة إمكانيات اختزال زمانية الثانية والدقيقة والساعة واليوم والشهر والسنة؟ أليس للقالب الذي تصاغ فيه القصة القصيرة اشتراطات بها تجوز عملية اختزال العالم برؤية ضئيلة في زمانها، لكنها ممتدة في اللازمان؟
رجاء تقبلي نقدي. انت مجدة، وكثيرة الإنتاج، ل تحياتي لك
وجب التنويه :
المسمى عبد الله الشيخ ينتحل بالحرف الواحد كلام السيدة نادية هناوي ، الكلام الواقع تحديدا بين العبارتين (إجناسية القصة القصيرة …. لكنها ممتدة في اللازمان؟) ، ثم يدعي بأنه يقدم نقده لمقال السيدة ويرجوها أن تتقبل نقده مستهجنا ومستصغرا إياها بختام قوله (رجاء تقبلي نقدي. انت مجدة، وكثيرة الإنتاج، ل تحياتي لك) !!؟؟ أي خطل مَرَضي هذا الذي يأتي به المسمى عبد الله الشيخ حينا والعقبة حينا و… و… و… أحيانا أخرى ؟؟!!