كتبت قبل ثلاثة أشهر من الآن، مقالا بعنوان «القضاء العراقي وصراع الأدوار» ناقشت فيه الصراع الذي يتنامى بين رئيس المحكمة الاتحادية العليا ورئيس مجلس القضاء الأعلى حول أيهما الأقدر على خدمة الفاعل السياسي الشيعي الأقوى، وأيهما أكثر فاعلية في تحقيق الأوهام التي يتشبث بها في مسألة حسم صراع السلطة لصالحه نهائيا وإن كان ذلك على حساب الدستور، والاختصاصات والمنطق نفسه!
وأشرنا إلى التصريحات «السياسية» التي صدرت عن الرجلين (وهي في الواقع تنتهك أحكاما دستورية صريحة) وذلك في سياق السباق بينها لإقناع الفاعل السياسي الشيعي بأنهما قادران على القيام بدور الوصي على النظام السياسي والدولة والمجتمع، لتحقيق متبنياته الأيديولوجية، وأحلامه السياسية!
وقد أستطاع كلاهما أن يشكل حوله «عصبة» مكونة من سياسيين، وقضاة، وإعلاميين، تدافع عنه وتدعو له، على طريقة روابط المشجعين، في سياق علاقة زبائنية مفضوحة!
صراع الأدوار هذا ليس جديدا، فقد شهدناه عام 2019، يومها تدخلت سلطات الدولة نفسها في هذا الصراع، فتقدم حلفاء رئيس مجلس القضاء الأعلى في مجلس النواب مقترحا لتعديل قانون المحكمة الاتحادية العليا رقم 30 لسنة 2005 بتحديد أعمار أعضاء المحكمة الاتحادية «دون تحديد حد أعلى للعمر إلا إذا رغب بترك الخدمة» كما في القانون، إلى 63 سنة فقط. وهذا التعديل كان الغرض منه الإطاحة بقضاة المحكمة الاتحادية جميعا!
وقد جاء رد المحكمة الاتحادية حينها سريعا، ففي اليوم التالي، أصدرت قرارا (بالرقم (38/ اتحادية/ 2019) الصادر في 21 أيار/ مايو 2019 ) يقضي بعدم اختصاص مجلس القضاء الأعلى لترشيح قضاة المحكمة الاتحادية بموجب المادة 91 من الدستور، وبالتالي عدم دستورية المادة (3) من قانون المحكمة الاتحادية العليا التي تعطي للمجلس هكذا اختصاص!
ثم تصاعدت الحملة مع صدور قرار عن مجلس النواب يوم 17 نيسان/ أبريل 2019 يقضي باستضافة رئيس المحكمة الاتحادية والأعضاء الثمانية الآخرين، تمهيدا للإطاحة بهم. وهو قرار فضح في حينه جهل رئيس مجلس النواب «محمد الحلبوسي» بصلاحيات مجلس النواب الدستورية، وأن رقابته تقتصر على «أداء السلطة التنفيذية» حصرا، وفضح، في الوقت نفسه، طبيعة الحملة ضد المحكمة الاتحادية العليا!
ثم أصدر مجلس القضاء الأعلى/ الهيئة التمييزية قرارا بالرقم ( 5/ 4/ هيئة عامة) عام 2020 يقضي بأنه بموجب قرار المحكمة الاتحادية المتقدم، فإن المحكمة الاتحادية نفسها ليس من اختصاصها ترشيح قضاة المحكمة الاتحادي «إلا إذا كان هناك نص قانوني صريح يضبط ويبيح ذلك». أي أن الهيئة التمييزية أقرت عمليا أنه ليس من اختصاصها ترشيح قضاة المحكمة الاتحادية، ما دامت قد تعاملت مع قرار المحكمة بهذا الشأن على أنه قرار بات وملزم للسلطات كافة.
لكن الفاعلين السياسيين يومها، قرروا دعم رئيس مجلس القضاء الأعلى في صراعه، فتواطأ مجلس النواب مع مجلس القضاء الأعلى، على عدم الالتزام بقرار المحكمة الاتحادية البات والملزم للسطات كافة، وضربه عرض الحائط! فجرى تمرير مشروع قانون لتعديل قانون المحكمة الاتحادية العليا رقم 30 لسنة 2005، الذي تضمن مادة تعيد لمجلس القضاء الأعلى صلاحية ترشيح رئيس وأعضاء المحكمة الاتحادية العليا في انتهاك للمادة 91 من الدستور، ولقرار المحكمة الاتحادية معا!
تحول القضاء في العراق، مثل بقية مؤسسات الدولة، إلى إقطاعيات، وافتقد إلى كل معايير المهنية أو الاستقلالية
لقد أثبتت تلك الواقعة ما كنا نقوله دائما، من أنه لا أحد في العراق يحترم الدستور، وأن مقولة أن قرارات المحكمة الاتحادية باتة وملزمة للسطات كافة، ليست سوى أداة سياسية يتم استخدامها لتحقيق أهداف سياسية، وأن بإمكان الفاعلين السياسيين الأقوياء الإطاحة به متى ما استدعت مصالحهم ذلك، سواء بشكل مباشر، أو عبر إجبار المحكمة ذاتها «العدول» عن قرارها.
وبتاريخ 15 نيسان 2024 نصت المحكمة الاتحادية في قرارها بالرقم (102/ اتحادية) عدم دستورية عبارة «في القضاء أو في الادعاء العام» الواردة في المادة (35/ رابعا/ أ/ 4) من قانون التقاعد الموحد رقم 9 لسنة 2014 والتي تقضي بأنه «يستحق القاضي وعضو الدعاء العام أو خلفه راتبا تقاعديا» فيما إذا «أحيل إلى التقاعد بناء على طلبه وكانت له خدمة في القضاء أو الادعاء العام لا تقل عن ثلاثين سنة».
ليصدر مجلس القضاء الأعلى/ الهيئة التمييزية قرارا صريحا ينقض فيه قرار المحكمة الاتحادية البات والملزم للسلطات كافة، ونص هذا القرار على المحكمة الاتحادية أنها «قد عدلت نصا قانونيا نافذا وهذا الأمر خارج اختصاصاتها ولا يمتلك مثل هكذا صلاحية فيكون حكمها معدوما»! ولم تكتف بذلك بل زادت «والحكم المعدوم كأن لم يكن ولا يرتب أي أثر قانوني وغير قابل للتنفيذ مطلقا ولا يحوز حجبه الأمر المقضي به لأنه ولد ميتا»! ومن يراجع حيثيات هذا القرار سيجد أن الهيئة التمييزية قد مارست تدليسا صريحا، وذلك عبر إغفال الهيئة التمييزية للحكم بعدم دستورية المادة القانونية المرتبطة بالموضوع، وهو اختصاص أصيل للمحكمة الاتحادية، وأنه لم يكن هناك أي تعديل في النص القانوني سوى برفع العبارة التي تنتهك أحكام الدستور وفقا للمحكمة الاتحادية!
الخطير هنا أن قرار الهيئة التمييزية يتضمن استهدافا صريحا لقاض بسبب رأي أدلى به! فالقضية تتعلق بالقاضي الكردي (عبد الرحمن سليمان زيباري) الذي استقال من عضوية المحكمة الاتحادية بتاريخ 12 آذار 2024، والذي أعلن في مؤتمر صحافي أنه قد توصل إلى « وجود نزعة في قرارات المحكمة المتتالية نحو العودة التدريجية إلى أسس النظام المركزي للحكم والابتعاد شيئا فشيئا عن أسس ومبادئ النظام الاتحادي الفدرالي من خلال توسيع نطاق الصلاحيات الحصرية للسلطات الاتحادية» والاتجاه «الى التفسير الواسع الخارج عن السياق والذي يصل إلى مستوى التعديل الدستوري»!
وبرر مجلس القضاء الأعلى/ الهيئة التمييزية استهداف القاضي المذكور بأنه «قد احتج باستقالته على قرارات المحكمة الاتحادية متهما إياها بمخالفة أحكام الدستور إلا أن الذي جرى وحصل بعد ذلك هو إحالته على التقاعد بناء على طلبه». وهذا تهديد صريح لأي قاض يتجرأ على الاعتراض على عدم مهنية القضاء أو استخدامه كأداة سياسية!
المفارقة هنا أن مراجعة قرارات المحكمة الاتحادية يكشف عن عشرات الأمثلة على تجاوز الاختصاص، وقد أشرنا إلى ذلك مرارا، ولكن هذا التجاوز كان يحظى دائما بتواطؤ جماعي، ولم يكن يثير أي اعتراض، إلى الحد الذي سمح للمحكمة الاتحادية أن تضع نصوصا تشريعية صريحة!
وكما كان متوقعا، تدخل العرابون الكبار لتسوية الصراع المتجدد بسرعة، ومرة أخرى انتصروا لرئيس مجلس القضاء الأعلى على غريمه المستجد الذي توهم أنه يمكن له الخروج على الدور المرسوم له من أجل دور أكبر، بما في ذلك «مناطحة» رئيس مجلس القضاء الأعلى المدعوم إيرانيا وإطاريا ومليشياويا!
لقد تحول القضاء في العراق، مثل بقية مؤسسات الدولة، إلى إقطاعيات، وافتقد إلى كل معايير المهنية أو الاستقلالية، وأصبح غير ممكن الوثوق بأي شيء يصدر عنه، والواقع أن هذا الوضع منطقي تماما في سياق نظام سياسي كليبتوقراطي ـ زبائني يسعى جاهدا لتكريس هذا النموذج من القضاء الذي يخدم مصالحه من جهة، ويُستخدم ضد الخصوم السياسين من جهة أخرى!
كاتب عراقي