القلق الغربي من انهيار الدولة الروسية

خلافاً لما قد يتبادر إلى الذهن، في وهلة أولى على الأقل، فإن أهل الحكم في أهم العواصم الغربية، لاسيما عواصم أوروبا الغربية كبرلين وباريس وبدرجة أقل لندن، لكن أيضاً في واشنطن كما في طوكيو، إن أهل الحكم في العواصم المذكورة لا بدّ أنهم تنفّسوا الصعداء إثر ما بدا وكأنه نهاية سلمية للأزمة الخاطفة والخطيرة التي شهدتها روسيا يوم السبت الماضي.
أما سبب تلك المفارقة، فهو ذاته السبب الذي جعل الإدارة الأمريكية تخشى انهيار الدول العربية في «الربيع العربي» عام 2011 وتدعو إلى «الانتقال المنظَّم» للسلطة في بلدان الانتفاضات. كان لهذا السبب آنذاك اسمٌ هو «درس العراق» أي العبرة مما يرون فيه خطأ فادحاً ارتكبته سلطات الاحتلال الأمريكية في العراق عندما حلّت القوات المسلّحة وضعضعت سائر مؤسسات الدولة العراقية سعياً وراء «اجتثاث البعثيين» منها، فانتهى الأمر إلى أن دبّت حالة من الفوضى عمّت البلاد مع تصاعد نفوذ شتى الجماعات المسلّحة غير الحكومية، سواء أكانت متعاونة مع الاحتلال أم محاربة له. وقد غرق العراق إثر ذلك في أتون حرب أهلية وكادت أوضاعه تفلت تماماً من سيطرة المحتلّ، الأمر الذي حدا بهذا الأخير إلى تغيير تكتيكه مع اعتماد «استراتيجية خروج» جرى استكمالها في نهاية عام 2011.
ثم انضاف درسٌ آخر في عام «الربيع العربي» ذاته، عزّز الدرس العراقي، هو ما شهدته ليبيا إثر انهيار نظام القذّافي ومعه الدولة التي قولَبها على خاطره. فبعد أن حاولت العواصم الغربية تسيير الانتفاضة الليبية بحيث تُبقيها تحت سقف التفاوض الأوروبي الذي كان جارياً مع سيف الإسلام القذّافي من أجل تحقيق «انتقال منظَّم» للحكم من أبيه إليه، فلتت الأمور من سيطرتها وأدّى الانهيار إلى استشراء حالة من الفوضى المسلّحة، لا زالت ليبيا تعاني منها حتى هذا اليوم.
هذا وتجدر اليوم إضافة حالة ثالثة إلى حالتي الانهيار المذكورتين، هي حالة السودان، وهي الأقرب إلى ما تهدّد روسيا خلال يوم كامل بدا طويلاً جداً. فإن التشابه بين الحالتين السودانية والروسية جليّ في أن البلدين شهدا كلاهما تعايشاً بين قوات مسلّحة نظامية وجماعة عسكرية غير نظامية رعاها النظام القائم، نظام عمر البشير في السودان ونظام فلاديمير بوتين في روسيا، وذلك من أجل القيام بمهام قتالية في ساحات خارجية يصعب زجّ القوات النظامية فيها تحت أنظار العالم، كما من أجل تشكيل درع إضافي للنظام في حال تعرّضه لمحاولة انقلابية.

نظام بوتين اهتزّ بشكل واضح، بما سوف يُضعفه على الأرجح في الحرب على أوكرانيا كما في مواجهة المعارضة الداخلية الضاغطة من أجل التخلّص من الرجل الذي يحكم البلاد منذ ما يناهز ربع قرن

وكانت النتيجة في الحالتين أن انقلب السحر على الساحر: فإن قوات الجنجويد في السودان، التي نشأت من خلال حرب الإبادة التي خاضها حكم البشير في دارفور، ثم أعيدت تسميتها «قوات الدعم السريع» ارتدّت على راعيها وشاركت في الإطاحة به إلى جانب الانقلابيين من القوات النظامية، بما سمح بتصاعد أزرها في عموم البلاد على خلفية المواجهة بين العسكر والحراك الشعبي. هذا إلى أن حاول الجيش النظامي ضبطها وفرض انضوائها تحت لوائه، فأبت ذلك وانفجر نزاعٌ مسلّح بين الطرفين لا زال جارياً بكلفة بشرية واقتصادية باهظة، بل وينذر بالاستدامة في حرب أهلية كارثية.
أما في روسيا فإن «خدمة فاغنر العسكرية» تلك القوات الخاصة التي أُنشئت في الحرب التي دارت في شرق أوكرانيا في عام 2014، ثم رأى فيها بوتين أداة لسياسته في سوريا وليبيا والسودان وساحات أفريقية أخرى جنوبي الصحراء، أُعيد استخدامها في غزو أوكرانيا في عام 2022 بما سمح بتصاعد أزرها داخل روسيا بالذات. هذا إلى أن حاول الجيش النظامي ضبطها وفرض انضوائها تحت لوائه، فارتدّت عليه وعلى قائده الأعلى بوتين وكادت تدخل في نزاع مسلّح مع الجيش، كان من شأنه لو تمّ أن يخلق حالة من الفوضى المسلّحة تعمّ البلاد وتؤدّي إلى انهيار الدولة، بما في ذلك تفكّك مكوّناتها القومية والإقليمية.
أما الفارق العظيم بين السودان وروسيا، وهو بيت القصيد، فهو أن الثانية دولة عظمى من حيث القوة العسكرية، بل ودولة حائزة على أكبر ترسانة من الأسلحة النووية في العالم. فبينما يكترث «المجتمع الدولي» بالكاد للمأساة الجارية في السودان، يكفي أن نتخيّل ما كان يمكن أن يحصل لو وقعت روسيا في حالة شبيهة بما حلّ بليبيا أو بالسودان لندرك كم كان قلق العواصم الغربية عظيماً إزاء أحداث يوم السبت الماضي وكم أن أهل الحكم فيها ارتاحوا بالتأكيد لاستتباب الأمور على ما انتهت إليه، وهو خير الخواتم في نظرهم. (صدر يوم الثلاثاء تقريرٌ في صحيفة «فايننشال تايمز» يؤكد ما سبق، بل ويشير إلى أن واشنطن حذّرت أوكرانيا من انتهاز فرصة ما كان يجري في روسيا يوم السبت للتوغل في الأراضي الروسية، خوفاً من مفاقمة الأزمة) ذلك أن الدولة الروسية ظلّت واقفة، بَيد أن نظام بوتين اهتزّ بشكل واضح، بما سوف يُضعفه على الأرجح في الحرب على أوكرانيا كما في مواجهة المعارضة الداخلية الضاغطة من أجل التخلّص من الرجل الذي يحكم البلاد منذ ما يناهز ربع قرن. وهذا ما من شأنه أن ييسّر ذلك «الانتقال المنظّم» للحكم في روسيا الذي تتمناه العواصم الغربية، أما انهيار الدولة الروسية الكامل فكابوسٌ لا يسع أن يتمناه سوى أشدّ الغلاة في العداء لروسيا دولة وشعباً، لاسيما في بلدان المحيط الروسي التي عانت تاريخياً من اضطهاد الإمبراطورية الروسية بأشكالها المتعاقبة تاريخياً.

كاتب وأكاديمي من لبنان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية