تستمرّ المذبحة في قطاع غزة، التي بات يصحّ توصيف الجرائم الإسرائيلية المرتكبة في سياقها بحسب الحقوقيّين الدوليّين بالإبادة الجماعية (جينوسايد)، لاستهدافها بالتحريض المُعلن والقتل المقصود والتهجير الجماعيّ أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين وقضائها المُمنهج على مقوّمات الحياة ومستلزماتها في حيّز عيشهم المُحاصر منذ ستة عشر عاماً.
وتستمرّ في الوقت عينه سياسات التمييز العنصري (الأبارتايد) في القدس الشرقية والضفة الغربية المحتلّتين، ويمارس المستوطنون المسلّحون والمحميّون من الجيش الإسرائيلي في ظلّ هذه السياسات انتهاكات يومية تصل حدّ القتل والتعذيب والطرد والسطو على الأراضي والممتلكات، بما يعدّ وفق القانون الدولي جرائم ضد الإنسانية.
بموازاة ذلك، تتصاعد الهستيريا السياسية والإعلامية في أمريكا وفرنسا ومعظم الدول الأوروبية دعماً لإسرائيل، ويعبّر عنها مسؤولون في تصريحات رسمية ومشاريع قوانين وشخصياتٌ عامة في محطّات تلفزة تستضيفهم على مدار الساعة، في انفلات كامل لغرائز كراهية معطوفة على جهل حقوقي وسياسي، إضافة إلى مكبوتات مخيّلة استعمارية (في الحالة الفرنسية خاصة) انفلتت من عقالها في السنوات الأخيرة.
وإذا كان في الأمر ما قد لا يُفاجِئ أو يصدم، نتيجة الانحيازات الغربية التاريخية لإسرائيل، ونتيجة نجاح الإسرائيليين في تشبيه مشهدية عملية «حماس» وبعض مجرياتها في 7 تشرين الأول/أكتوبر الفائت بمشهديّات عمليات مثل تلك التي ضربت في 11 أيلول/سبتمبر 2001 نيويورك وفي 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 باريس، فإن ثمة مسائل خطيرة وإشكاليات فلسفية عميقة يعبّر عنها ما تسبّب به خطاب الانحياز الغربي الراهن لإسرائيل بما يتخطّى الموقف من «حماس» وعمليّتها، وبما يتخطّى الخريطة الفلسطينية نفسها، ولو أنها تتكثّف فوق أراضيها.
فما يدور من حوارات وسجالات في وسائل الإعلام المرئي، على القنوات الخاصة في فرنسا وعلى بعض القنوات الأمريكية والبريطانية والألمانية، يُظهر كيف أتاحت الأحداث المتلاحقة والمواقف الحكومية والانفعالات العاطفية المرتبطة بها لعُتاة اليمين المتطرّف ولمُعتنقي أفكاره (ولَو من دون الانتماء صراحةً إليه) الدعوة إلى حرب شاملة بين ما أسموه «الحضارة» و«البربرية». فقد اعتبر هؤلاء أن الحرب الإسرائيلية هي حربهم وحرب «حضارتهم»، أو هي بالأحرى التعويض عن الحرب العسكرية التي لم يعد بمقدورهم خوضها أو الانخراط بها على مختلف الجبهات. فهي من ناحية حرب ضد «سكّان أصليين» تريد إخضاعهم أو إفناءهم إذا أمكن، مستعيدة بذلك تراث ما كانت حروب استعمار في قرون غابرة تفعل إذ تُخَيّر ضحاياها بين الاستسلام والموت. وهي من ناحية ثانية، تكثيف لعنف كثيف الفظاعة يُحاكي ما يشتهي اليمين المتطرّف يوماً فعله في ضواحي مدن غربية انتقل «سكّان أصليين» من مستعمرات سابقة إليها، فصاروا «اعتلالاً» فيها أو صاروا جيوباً للـ»بربرية» ينبغي إزالتها ذوداً عن نقاء «الحضارة» وصفائها.
أكثر من ذلك، يشي ما يجري اليوم، في ما هو أوسع من توهّمات ومخيّلات وقاموس مصطلحات اليمين المتطرّف، بتراجع علني لتعلّق غربي سابق (شكليّ أو جدّي) بمنظومة حقوقية دولية تطوّرت بعد الحرب العالمية الثانية وشملت ميثاق تأسيس الأمم المتحدة والشرعة العالمية لحقوق الإنسان واتفاقيات جنيف وروما، والمحاكم الدولية المختصة والمؤسسات الإنسانية والخدماتية والصحية الكبرى. فهذه المنظومة إذ ظلّت قاعدةً لاتخاذ قرارات أو فرض عقوبات، أو على الأقل رادعاً لسلوكيات ولاستنسابيات وأدوات لتقديم دعم ورعاية وعون إنساني، تزامن الاحتكام إليها أوروبياً مع تراجع للنزعات الحربية فوق قارتهم (لم تخرقها طيلة عقود طويلة سوى حرب يوغوسلافيا، ثم مؤخّراً حرب روسيا على أوكرانيا). غير أنها صارت بالفعل اليوم على المحك، ولم تعد المحاججة المستندة إليها وإلى تعريفاتها القانونية الدقيقة كافية أو مُقنعة في وجه فجور العنصرية والاستقواء بالقوة الغاشمة.
ويصحّ الزعم أن حقبات من الحرب السورية بين العامين 2012 و2018 وما شهدته من أهوالٍ ظلّت بلا محاسبة سبق وشكّلت أرضيّة لتضعضع هذه المنظومة، رغم محاولات لاحقة واستدراكية لمحاكم ومبادرات حقوقية في عددٍ من البلدان للإبقاء عليها وحمايتها. إلا أن غزة اليوم باتت تنذر بدفنها لفترة طويلة مقبلة.
وهذا التضعضع أو السقوط المعلن للمنظومة الحقوقية بمنتهى الخطورة، ليس فقط لتعزيزه ما قد يسوّغ البربرية والفظاعة في حروب أخرى قائمة أو قادمة، وليس فقط لإفقاده منطق التصدّي لانتهاكات القانون الدولي القوة المعنوية والسياسية والحقوقية اللازمة لردع المنتهكين أو تهديدهم (وستستفيد بلا شكّ من ذلك روسيا والصين)، بل أيضاً وبخاصة لأنه يدفع نحو المزيد من العدمية والتطرّف في الصراعات وفي أشكال الاحتكام إلى العنف المُعمّم من دون خشيةٍ من تبعات تسليطه على ضحايا قدامى أو جدد…
في تعليق له على الفايسبوك قبل أيام، كتب الأنتروبولوجي الأسترالي-اللبناني الصديق غسان الحاج عمّا أسماه «صعود القوة العارية» في حرب غزة. وقال إن هذا الصعود استثنائي من حيث دمجه مقداراً غير مسبوق من التكنولوجيا الغربية المتقدمة وقوة النيران والقدرة على القتل على نحو علني ومرئيّ بعنصرية تنزع عن شعب بأكمله الأنسنة وتُجيز نظرياً القضاء عليه. وهو بهذا المعنى يختلف حتى عمّا قام به النازيون، الذين رغم تخطّيهم كل حدود الهمجية وإيصالهم استخدام التكنولوجيا الأكثر تطوّراً يومها لإبادة من نزعوا عنهم الأنسنة إلى ذروتها، إلاّ أنهم شعروا بالحاجة إلى إخفاء ما كانوا يرتكبونه من فظاعات، فظلّت جوانب عديدة منها سرّية أو غير مصرّح بها. وهذا يعني أن فلسفة القوة التي تخفي جوانبها الشريرة أو حتى تسعى لنفيها وإنكارها تنهار أمامنا الآن. وفي انهيارها ما يؤسّس لحقبة جديدة في تاريخ العنف المنظّم وممارسته. وفيه أيضاً ما يُطيح بعلاقة المثقفين بما يُسمّى الحقيقة وبشروط وموجبات إشهارها والدفاع عنها في وجه السلطة، أي سلطة. فالقوة العارية أو المُعلِنة عن نفسها بلا خشية أو تمويهٍ تقول لنا إنها الحقيقة الوحيدة، أو الحقيقة المطلقة، وتفرض علينا الأمر بالعنف. فهل من قدرة على مقارعتها بمنطق آخر أو بمقولات من خارج حقل الأحداث الدائرة حيث تسحق مُستهدَفيها؟
يُحيلنا ما ورد إلى خلاصة مفادها أننا في مواجهة هذه الحرب في غزّة الفلسطينية، إنما نواجه منعطفاً جديداً في التاريخ، ليس أقل شأناً أو أثراً في المقبل من السنوات ممّا كانته منعطفات سابقة. ونواجه كذلك تحدّيات تحتّم تفكيراً جديداً بِسمات السياسة والحق والقانون التي نريد القول بها والدفاع عنها، وبالتحالفات والجهود الواجب تضافرها لمواجهة العنف العاري وحقيقته وتقليص قدرته على فرضها علينا بالنار. وعلى الأرجح أننا سنواجه فوق ذلك وربطاً به تقدّما للعدميّة بأشكالها وإرهاصاتها المختلفة. وكلّ هذا سيكون شديد القسوة والصعوبة.
*كاتب وأكاديمي لبناني