بعد ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وانتشارها أصبح التعبير عن الجهل والتفاهة متاحاً للجميع، كنّا في الأردن، على سبيل المثال، نشكو من الأغلبية الصامتة، اليوم أصبحنا نشكو من الأغلبية الثرثارة، «السوشال ميديا» منحت لكل إنسان الفرصة بالتعبير عن الرأي، هذا رائع. لكن الذي حدث بعد ذلك كشف تراكمات عقود من الكبت والجهل والأمراض النفسية، فجأة أصبح لجميع الناس صفحة يكتبون عليها ويستمتعون بالإعجابات والتعليقات، فرحوا بذلك كثيراً، سابقاً كان الكلام والكتابة ضمن دائرة ضيقة، لكن ماذا كتبوا وكيف عبروا عن أنفسهم؟ طبعاً كتابة المقالات الطويلة أو النصوص الأدبية تحتاج لثقافة ودراية بالكتابة وأسرارها، لذلك كان النمط السائد المسيطر هو نشر الصور وكتابة المقاطع القصيرة والقص واللصق، الأغلبية الساحقة من الناس تفعل ذلك على صفحاتها.
مخزون معظم الناس الثقافي ضئيل، لم يقرأوا في الماضي، ولا يريدون أن يقرأوا اليوم، لذلك سيطر عليهم الاستسهال، قراءة المقالة أو القصة أو الرواية تحتاج إلى وقت، يقولون: لا نجد الوقت فنحن نسعى خلف لقمة العيش، ومشاغل الحياة وضغوطاتها كثيرة، لكنهم يتناقضون بشكل واضح، الواحد منهم يقضي ساعات كل يوم يكتب جملاً قصيرة مكررة، أو مسروقة، أو ينشر الصور ومقاطع الفيديو، أو يقرأ ويتفاعل مع التفاهات، يعيشون في وهم كبير، مقاطع الفيديو بأنواعها المنشرة في كل مكان سرقت قرّاء الكتب، طبعا باستثناء المقاطع التي تصوّر وتفضح جرائم الاحتلال الصهيوني، مقاطع الفيديو شغلت معظم الناس وسيطرت على تفكيرهم، معظمها ثقافة بصرية سطحية وفاشلة، لا تغني ولا تسمن من جوع ثقافي، ومن يتصفح مواقع التواصل يلاحظ أن الكثير من الناس يتحدثون عبر صفحاتهم عن محاسنهم ونضالهم وبطولاتهم وإنجازاتهم العظيمة، ويبالغون في نشر صورهم كل يوم وكل ساعة، وأحيانا بلا خصوصية، تماماً كما نحن منذ ولدنا نقرأ في الصحف الرسمية عن بطولات وإنجازات الزعماء العرب، ونشاهد صورهم كل يوم على الصفحة الأولى في الصحف، والشاشات والوزارات والشركات والمؤسسات والأرصفة، ثمة تشابه كبير بين ما فعله ويفعله الزعماء والناس.
البعض يستغل صفحته لأمور غير أخلاقية، وهناك نوعية يائسة ومحبطة تنشر اليأس والإحباط وتشكك بكل شيء، أمراض نفسية ولا علاج. وللإنصاف معظم الناس في المجتمعات العربية يتعاطفون مع قضايا الأمة، يكتبون وينشرون الصور ومقاطع الفيديو عن حرب الإبادة الصهيونية في فلسطين، لكن ذلك مؤقت ولا يتم بشكل منظم، هو نظام (الفزعة) ثورة مؤقتة للمشاعر والعواطف، تتوقف الجرائم والكوارث فيعودون لما كانوا عليه وكأن شيئاً لم يكن، (ذاكرة السمك).
الطامة الكبرى أن يشارك الكتّاب والأدباء في هذه المهازل، (ركبوا الموجة) تحوّل بعض المبدعين إلى التهريج، حتى يكسبوا الناس ولايكاتهم وتعليقاتهم، كتّاب وأدباء ينشرون سخافات وترّهات على صفحاتهم، وهكذا وصلنا إلى انتشار الفوضى والفكر والثقافة السطحية، وأدباء مرضى بالأنا المتضخمة، طبعاً من حق كل إنسان أن يعلن على صفحته، عن نشاط أدبي أو غير أدبي شارك فيه، أو عن كتاب صدر له، أو ينشر مقالة له، أو يعبر عن رأيه في أمر ما، هذا فعل جيد وأنا بكل تأكيد لا أقصد هؤلاء، المقصود هم الكتّاب والأدباء المرضى بالذات وتخليدها، مع أن الكتابة خروج من الذات وغوص في عوالم الآخرين، المقصود هم الذين يعتقدون أنهم بشر في غاية الأهمية، والناس تنتظر أخبارهم على أحر من الجمر.
في الموضوع نفسه بعض البشر يثيرون الضحك من المبالغة بنشر صورهم، البعض حتى لو نشر مقالة أو رأياً عن المجازر في غزة، فتجد إلى جانب المقالة أو الرأي صورته الضاحكة، بالمناسبة هذا شاهدته في الصحف والمواقع، صورة كاتبة أو كاتب يضحك مستبشراً والمقالة تتحدث عن المجازر والدمار والجوع في غزة! البعض هنا سيقول لي: وأنت ما الذي يزعجك؟ كل إنسان حر بصفحته، نعم كل إنسان حر بصفحته، وأنا أيضا حر بانتقاد المهازل والترهات بكل صراحة، كما أن من واجب الكاتب أن ينتقد السلبيات، إذا كان الكثير من الكتّاب والأدباء يشاركون في الفوضى والمهازل، فهل نوجه اللوم للناس البسطاء، نريد مواقع تواصل فيها العلم والأدب والحوار، نريد أن نوظفها لهذا الهدف ونجذب الشباب لذلك، لا أن نغمض أعيننا أو نغض الطرف ونقول كل إنسان حر بصفحته، نشر المهازل والمساخر والترهات والترويج لها ليس حرية ونحن أمة تغرق، لو كان هناك تخطيط وتعاون وتنسيق بين الأدباء والكتّاب والمثقفين، لكانت مواقع التواصل العربية في وضع أفضل بكثير، وربما كانت نموذجاً للعلم والأدب والحوار يحتذي به العالم كله، لكن للأسف الكثير من الأدباء والكتّاب مستسلمون للتدجين، أو منشغلون بمصالحهم الخاصة، وببطولاتهم وبإنجازاتهم العظيمة وأوهامهم كما يفعل عامة الناس، الكتّاب والأدباء قادة فكر ورأي يفترض أن يكون لهم التأثير الإيجابي المنشود، ليس من خلال تأليف الكتب فقط، بل من خلال التواصل مع الناس في مواقع التواصل، وفي كل مكان والتحاور معهم وإقناعهم بأهمية المطالعة والثقافة، ومن خلال الجد والاجتهاد وابتكار طرق وأساليب جديدة وغير تقليدية، نعم الكتّاب والأدباء بشر ومن حقهم التفكير بأنفسهم ومصادر رزقهم، وجميعنا يعلم حجم الحرية والمعاناة في وطننا العربي.
لذلك أن تكون كاتباً أو أديباً حقيقياً صاحب رسالة، فهذا يعني أن تناضل وتعاني وتضحي وتصبر، رسالة الأدب تتطلب أن تكون كذلك وتحترم القلم والأدب، لا أن تشارك في السخافات والترهات وتصبح مهرجاً، أو أن تنافق وتبيع قلمك وتدجّن وتصبح لساناً لحذاء كبير، إذا لم تحترم القلم والأدب، عليك أن تبحث عن عمل أو شيء آخر تفعله غير الكتابة.
اليوم وفي ظل هذه الأوضاع الخطيرة، التي تمر بها الدول والمجتمعات العربية من كوارث فكرية واقتصادية وسياسية واجتماعية، من واجب الكاتب والأديب العربي أن لا يكتفي بتأليف الكتب، وجميعنا يعلم أن القرّاء قلة قليلة، بل عليه أن يجد ويجتهد ويبتكر ويضحي لنشر الأدب الجيد والثقافة ومحاربة التفاهة.
ولا تقولوا لي هذه مهمة الدولة، فالصغير قبل الكبير يعلم أن الجهات الرسمية لن تفعل إلا القليل، والثقافة والأدب بمفهوم الكثير من الدول أو الجهات الرسمية هو الولاء الأعمى والتقديس والتصفيق، الأدب والثقافة بمفهوم معظم الأنظمة صورة معلقة على الجدار، وكذلك وللأسف بعض الكتّاب والأدباء بمجرد أن يعرفه الناس أو يصبح شهيراً يعزل نفسه، ويظن أنه عبقري عظيم ومن العيب أن يتواصل مع الناس، بل حتى لا يضع (لايكاً) على التعليقات على منشوراته، يحاول أن يظهر للناس بأنه مشغول جداً، يظن أن هذا من متطلبات الشهرة أو (البرستيج) ربما سيتغير الحال يوماً ما ويفهم البعض معنى أن تكون كاتباً أو أديباً حقيقياً صاحب رسالة.
روائي أردني