بين الكاتب والناشر لا تزال خلافات تسبح، بعضها قد يصير حديث العامة، وبعضها الآخر يتوارى تحت الماء. ومن النادر أن نُصادف علاقة حميمة بين الطرفين، أن يتراشقا بمجاملات أو يُضمر أحدهما محبة للآخر، لاسيما في العالم العربي، حيث أن الكاتب يصر في الغالب على عدم رضاه بأداء الناشر، بينما الناشر لا يتوانى مرات في التبرؤ من الكاتب. كل طرف يسعى إلى تحميل الثاني جزءاً من المسؤولية في حال فشل كتاب أو عجز الناشر عن إتاحته على أوسع نطاق للقراء، مع أن كل طرف يعلم أن شروط سوق الأدب غير متاحة عربياً، لكنه يغض الطرف ويستمر في عتابه.
لا أحد يحمل الجو العام مسؤوليته، ويتغاض الجميع عن أننا لم نصل إلى تقاليد نشر، بحكم أن الأرضية غير مهيأة، مع انصراف القراء عن الكتاب، بحجة غلاء سعره تارة، وتخاذلاً منهم تارة أخرى، لذلك لن نعرف من هو الضحية ومن الجاني في العلاقة بين كاتب وناشر، إلا إذا عالجنا راهننا الأدبي المعتل، ولا يمكن أن نقارن أنفسنا بثقافات أخرى، في وقت لم تتح لنا الشروط التي أتيحت لغيرنا، ولكن، في انتظار واقع أفضل مما هو عليه اليوم، كيف صارت العلاقة بين كاتب وناشر في الغرب؟ لا نستطيع أن نعمم ملاحظاتنا، لكن سيكون من اللائق أن نتوقف عن العلاقة التي جمعت بين الكاتب السويسري جويل ديكار وناشره الفرنسي برنار دو فالوا، علاقة يحسدهما عليها كتاب وناشرون آخرون، استمرت ست سنوات، أثمرت كاتباً باتت أعماله تُقرأ في كل أنحاء العالم، مع أنه لم يتعد الخامسة والثلاثين من عمره، وجعلت من ناشره أيقونة في «صناعة الباست سيلر».
من هو الناشر؟ سؤال مشروع في ظل تزايد الناشرين، في السنوات الأخيرة، وارتفاع أعدادهم مثل فطريات، في وقت كانت فيه دور النشر العربية، قبل عقدين، تُعد على أصابع اليد الواحدة. هل الناشر من يستقبل مخطوطاً من كاتب فيعجب به ويحوله إلى مطبعة؟ هل الناشر من يمتلك حيلة ومهارة في تسويق الكتاب وبيعه؟
في هذه العلاقة الحميمة التي جمعت بين كاتب سويسري وناشر فرنسي قد نتفاءل بأن العدوى سوف تنتشر عربياً، أن نرى قصصاً مُشابهة في فضائنا، وأن يتصالح الطرفان، ويجدا أرضاً وسطى تعصمهما من نزوعهما في تبادل التهم وسوء الظن ببعضهما بعضا.
هل الناشر من يمتلك في قائمة أعماله أكثر الكتاب مقروئية؟ كل هذه التخمينات لم تعن شيئاً في حياة برنار دو فالوا (1926 ـ 2018) فبعدما قضى عمراً كاتبا وناقدا، ثم مدير سيرك، في توجه مخالف تماماً لما تخصص فيه، ثم مسؤولا عن النشر في دور فرنسية، أسس وقد تجاوز الستين من عمره دارا تحمل اسمه، وانكب في البداية في نشر وإعادة نشر أعمال كتّاب سبقت شهرتهم شهرة تلك الدار. لم يُراهن على المغامرة ولا على لعبة اكتشاف أسماء جديدة، بل آثر الاكتفاء بأسماء لقت رضا من الجمهور، تتيح له مبيعات مقبولة، يواصل بها الدفع بالدار إلى الأمام، هكذا ظلت (منشورات دو فالوا) داراً عادية، تنشر ما يطلبه الجمهور، لا تحمل أدنى استثناء مقارنة بدور أخرى مثلها. استمر الحال كذلك قرابة الربع قرن، وبعد أن أتم دو فالوا منتصف الثمانينيات من العمر، قابل في مكتبه الباريسي شاباً قادماً من سويسرا، يُدعى جويل ديكار، يتأبط مخطوطة رواية بعنوان «آخر أيام آبائنا» رفضتها غالبية دور النشر الأخرى، لكن دوفالوا جازف بنشرها في شتاء 2012، وكما توقع فقد مرت مثل سحابة، لا قراء انتبهوا إليها ولا نقاد، فأدرك الكاتب الشاب لحظتها أن أول خطوة له في الأدب كانت خيبة، قد تنجر عنها خيبات أخرى، قبل أن يطلع الناشر على مخطوطته الثانية «حقيقة ما جرى لهاري كيبار» وهي رواية بوليسية تدور وقائعها في أمريكا، فأصر على نشرها في السنة ذاتها، أمام دهشة ديكار، الذي توقع فشلاً مثل سابقتها، لكنها حازت جائزة غونكور لطلبة الثانويات، جعلت من صاحبها الأكثر مقروئية في أوروبا طيلة أشهر، ثم تحولت إلى مسلسل سينمائي من إخراج جون جاك آنو، وتوثقت العلاقة بين الكاتب وناشره إلى غاية وفاته، قبل زهاء عامين، وقد تجاوز التسعين من العمر. هكذا خرج ناشر إلى النور في خريف عمره، وقبل أن يعتزل الحياة، دفع بكاتب شاب مغمور إلى الواجهة، جعل منه الاسم الأكثر حظاً في الترجمات، أصدر له أربع روايات متتالية، وجاء العرفان من الكاتب أن أسدى التحية إلى ناشره في عمله الأخيرة، المعنون «لغز الغرفة 622» (الصادرة العام الماضي) بل إنه جعل من ناشره شخصية في الرواية وخصص فصلاً له.
يستحضر جويل ديكار في عمله الأخير ذكريات مع ناشره، الذي تلهف من الوهلة الأولى إلى إصدار رواية «حقيقة ما جرى لهاري كيبار» واستبشاره بأن تكون من نجاحات الموسم، فحين سأله الكاتب عن سبب حماسته تلك، أجاب: «الكتاب الأنجح ليس كتاباً يُباع بالضرورة، بل كتابا يستلذ الناشر إصداره» كان ذلك تعريف الكتاب الناجح في نظر ناشر قضى أكثر من نصف قرن في تلك المهنة، وتزامن صدور الرواية مع صدور «منصب شاغر» للبريطانية ج.ك. رولينج، وكان ذلك كتابها الأول بعد سلسلة هاري بوتر، وبينما كان الناس في فرنسا في طوابير يترقبون رواية رولينج، كانت «حقيقة ما جرى لهاري كيبار» قد خرجت لتوها من المطبعة، وقد تزايد قلق صاحبها بأن الرواية البريطانية سوى تحجب عنها النور، لكن إصرار دو فالوا عليها، وهو الذي كان يهاتف المكتبيين كل يوم يسدي لهم توصية برواية الكاتب الشاب، لعب دوراً في تحقيق نجاحها، لقد بذل الناشر من ماله وجهده وكل طاقته، وهو في النصف الثاني من ثمانينيات العمر، كي يصدر كاتباً في عمر أحفاده، لا تزال رواياته تصنع الحدث كل مرة.
في هذه العلاقة الحميمة التي جمعت بين كاتب سويسري وناشر فرنسي قد نتفاءل بأن العدوى سوف تنتشر عربياً، أن نرى قصصاً مُشابهة في فضائنا، وأن يتصالح الطرفان، ويجدا أرضاً وسطى تعصمهما من نزوعهما في تبادل التهم وسوء الظن ببعضهما بعضا.
العالم العربي شبه أمي. التوزيع محدود بالقياس إلى دولة العدو التي تتساوى مع خي شبرا بالقاهرة في عدد السكان .الناشرون يخضعون لاعتبارات غير ثقافية،ويأكلون حقوق المؤلف. قليل منهم من يدفع ثمنا قليلا للمؤلف ، إذا كان ذا منصب. المؤلف الجيد لا بد أن يستند على شلة تروج له. واسأل أصدقاء الحظيرة الثقافية. السلطة الانقلابية أو المنشارية تتحكم فيماينشر أولا ينشر رسميا. إذا كان الكتاب أو المؤلف معاديا للإسلام ينشر على الفور باسم حرية التعبير. إذا كان دفاعا عن الإسلام لا يرى النور لأنه تطرف!
بدلا من مساهمة الدولة المالية والاعلامية والثقافية في تشجيع البحث العلمي ونشر المعرفة الاصلية، نجد ان راس المال وطغيان البيروقراطية هما الاساس.