الكتابة القرآنية وسؤال المعنى

حجم الخط
0

كنت، وما أزال، كلما أستمع إلى أحزاب أو سور من القرآن الكريم، أو أقرؤها من المصحف أجد نفسي أطرح أسئلة عن العلاقة بين الشفاهة والكتابة، وأثر كل واحد منهما في تحصيل المعنى المراد. إن لكل من الشفاهي والكتابي خصوصيته وإكراهاته التي هي من صميم طبيعته الخاصة. ولما كانت القراءات القرآنية متعددة، وقد بذل المسلمون، على مرّ التاريخ، مجهودات كبيرة لضبطها، والتنظير لها من خلال وضع قواعد خاصة هي أساس «علم القراءات» فإن كتابة النص القرآني لم تحظ بالاهتمام نفسه على حد علمي.
صحيح نجد اهتماما برسم الكلمات، وضبطها، بهدف تدقيق كيفية النطق بها. وكان هناك نقاش حول الرسم القرآني، واختلفوا في الجواب عن سؤال: هل هو توقيفي أو توفيقي؟ لكن الأمر في رأيي لم يكن سوى حول الكتابة في حد ذاتها، وليس بخصوص الحيز الذي يمكن أن تشغله، وهذا هو ما يهمني بالدرجة الأولى والأخيرة، لأني أرى أن الفضاء الذي يمكن أن تملأه الكتابة له دخل كبير في تحصيل المعنى، وتحقيق دلالة النص القرآني.
يلاحظ قارئ المقالات التي أنشرها في «القدس العربي» أنها تأتي على شكل كتلة واحدة، وتتخذ صفة «عمود» على صفحة الجريدة، من أعلى الصفحة إلى أسفلها، مع وجود نقط، وفواصل، وعلامات وقف أخرى. لو كتبت مادة المقالة عينها في مجلة، وكانت المساحة المخصصة لي صفحة من المجلة، كنت سأتخذ طريقة أخرى في كتابتها. سأوظف مثلا، عناوين فرعية، وأرقام فقرات متسلسلة، وأستعمل لعبة البياض والسواد، مثلا. كما أنني لو كتبت المادة نفسها على صفحة ويب لأضمنها موقعي الشخصي كنت سأكتبها بطريقة مختلفة نهائيا عن الجريدة والمجلة: سأستفيد من كل ما تقدمه لي الحزمة المكتبية من إمكانات، مثل: تغيير البنط، والألوان، والكلمات الغليظة والمائلة، إضافة إلى العناوين الفرعية، من المقدمة إلى الخاتمة، وغيرها.
إن المادة المكتوبة واحدة، لكنها تتخذ أشكالا وصورا متعددة، وهي تتحقق من خلال حيز ورقي محدود (الجريدة) أو موسع (المجلة) أو مفتوح (إلكتروني) تبعا لوعيي ككاتب أولا بما يسمح لي به الفضاء، وما تتاح لي من إمكانات لاستثمار وظائف متعددة من جهة، وكل ذلك لتحقيق غاية معينة، وهي التواصل مع القارئ بكيفية أدق وأجمل من جهة ثانية، تراعي الوسيط الذي أتعامل معه.
فما الفرق بين قراءة مادة في جريدة، ومجلة مثلا؟ إن على قارئ الكتابة الأولى أن يبذل مجهودا كبيرا، وهو يتنقل بين أسطر المقالة، دون أي توجيه محدد. وعليه أن يركز كثيرا على الجمل الأولى، ويحاول، وهو يقرأ، ترتيب الأفكار وينسقها في ذهنه، قبل متابعة القراءة، وحين يكون الانتقال من موضوع إلى آخر، يتوقف ذهنه مؤقتا ليتابع ما هو جديد حتى ينتهي منه، ليعيد ربطه بما سبق، إذا لم يكن ثمة استطراد إلى فكرة ثالثة مختلفة تدفعه إلى القيام بالعملية نفسها: وضع كل فكرة في خانة افتراضية في ذهنه، ويعمل بعد ذلك على الربط بينها، وصولا إلى النهاية.
إن قراءة الكتابة الأولى تفاعلية لأنها تفرض على القارئ أن يكون حاضرا، ومتتبعا للنص الذي يقرأ من البداية إلى النهاية، وأن يبذل جهدا كبيرا في الربط بين الأفكار، ويعيد ترتيبها في ذهنه، ويستحضرها، بعد ذلك، ليحصل المراد من قراءة المقالة، وفهم مقاصدها. أما الكتابة الثانية التي يوظف فيها الكاتب فضاء الصفحة مستثمرا فضاءها الموسع أو المفتوح، وهي تتقدم إليه من خلال تمهيد يطرح فيه الإشكال، وعناوين فرعية تتوزع إليها المادة النصية المعالجة، والمقدمة إليه من خلال التشديد على كلمات لإثارة الانتباه إلى قيمتها الخاصة في النص، وتظل الأفكار تتدرج من الأعم إلى العام إلى الأخص وصولا إلى الخاتمة التركيبية، فإنها، بسبب المجهود الذي بذل في كتابتها بتجاوز إكراهات الصفحة المحدودة، تقدم له المراد تحصيله بكيفية أنسب وأوضح وأبسط. إننا هنا أمام كتابة ترابطية تتسلسل فيها الأفكار، وتتطور، بكيفية سلسلة ومنسابة.
إن التفاعل والترابط حاضران في الكتابتين والقراءتين معا. لكن كل واحد منهما يتحقق في ضوء خصوصية الوسيط، وإكراهاته، من جهة، ومدى وعي الكاتب بإعداد مادة كتابته لتحقيق تواصل أفضل، من جهة أخرى.
ما قلناه عن الكتابة ينسحب، إجمالا، على الشفاهة أيضا رغم الفرق بينهما. فالمتكلم يبذل قصارى جهده للتواصل مع مخاطبه، وهو يتوجه إليه في مقام تواصلي محدد. فكيف يتكلم المرء شفاها، ويجعل السامع يتواصل معه ويفهم مراده؟ وحين نقوم بنقل نص شفاهي إلى الكتابة ما الذي يتحكم فيه؟ هل الأصل الشفاهي الذي كان يراعيه المتكلم في مقام خاص؟ أم إكراهات نقل هذا الكلام إلى وسيط معين كان يفرض وجوده قبل التطور الذي عرفته الوسائط الجديدة؟
إن الهدف من هذه الأسئلة هو محاولة فهم نقل النص القرآني من الشفاهة إلى الكتابة، والعلاقة بين القراءة والكتابة القرآنيتين. وهل بالإمكان تطوير القراءة والكتابة بهدف الارتقاء بهما لتحقيق المراد من فهم ملائم للنص القرآني.

كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية