إلى أي مدى يمكن الحديث عن «تواصل» سلطات الأنظمة الشمولية، مع مكونات مجتمعاتها؟ تساؤل يبدو من حيث الظاهر بريئا، غير أنه من حيث الباطن، لا يخلو من نبرة الإنكار والارتياب، ذلك أن القول بالأنظمة الشمولية، يعني عمليا الإلغاء التام لمفهوم المجتمع المدني. ما يؤدي حتما إلى إلغاء مشروع أي تواصل محتمل، بحجة أن الوضع الطبيعي لاشتغال عملية التواصل، يقتضي أساسا وجود طرفين، أو عدة أطراف على رقعة متوازنة، ذات طبيعة تفاعلية، تحظى مقوماتها بتزكية أغلبية، تتطلع إلى بلورة خطاب مشترك من شأنه إضاءة ما يلوح عالقا بين فئاتها من إشكاليات، قد يؤثر استمرارها سلبا في مردودية تواصلها.
غير أن الأمر يختلف جذريا بالنسبة للسلطة ذات التوجه الشمولي، باعتبار أنها وحدها الوصية على الرقعة، وعلى ما يوجد فيها من قيم وخطابات واستراتيجيات، حيث ما من طرف سواها يكون – بالنسبة لها – المعني الأول والأخير، بأي تواصل محتمل. إنها – من هذا المنظور- خلاصة مقومات المجتمع، بكل ما يتواجد فيه من أطياف. وبتعبير آخر، هي ذلك الجمع الكامل، بصيغة المفرد، الذي يحمل اسما واحدا لا شريك له، هو اسمها الشخصي، بوصفها الحاكمة المطلقة والمتحكمة. فبقوة هذا المعنى ذي المسحة المأساوية والمرعبة في آن، تفتح السلطة حوارها الأحادي البعد، مع ذاتها دون غيرها، مع التذكير في هذا السياق، أن الذات هنا لا علاقة لها بتلك المتداولة عادة في المعجم الصوفي، كي لا يذهب الظن بالبعض، إلى الاعتقاد باحتمال حضور حالة التذاوت بين السلطة الشمولية وشعبها، على سبيل ذلك التعاشق الصوفي، الذي تنعدم فيه الكثرة، ولا يبقى سوى الحلول الأحادية البعد المتبادلة بينها وبين مجتمعها.
إن الذات المشار إليها في هذا السياق، هي تلك المؤيدة بسلطتها، والمهيمنة بتسلطها، التي لا حق لأي ذات مغايرة أو مختلفة بالوجود في فضائها. إن تجرد السلطة من قيمة التواصل، يعود إلى اشتغال ميكانيزماتها بمنطق العنف، وليس بمنطق العقل، بمعنى أن حوارك معها هو في الأصل نتاج تورط قسري في أشرس فخ يمكن أن ينصبه لك العنف، بكل مستوياته الواقعية والرمزية، حيث ما من مجال للاستجابة فيك أو لديك، سوى استسلامك القسري لقدر الإذعان، أو على النقيض من ذلك، الحسم في تبني موقف مضاد، هو موقف المقاومة، وفي الحالتين معا، سيكون العقل معنيا بالتراجع عن التفكير في أي تواصل موضوعي، ما دام العنف هو الخيار الوحيد الذي تكره فيه الذات على تقبله، والبحث عن حل نهائي لمعضلته.
ولعل أقسى ما يمكن أن يعانيه المواطن في ظل هذه الوضعية، هو مراوحته بين قطبين يتميزان بأقصى درجات التضاد، يحيل أحدهما «نظريا «على أجواء الأنظمة الديمقراطية، التي ينعم فيها مواطنوها بالحد المطلوب من الحياة الشريفة والعادلة. في ما يحيل الثاني عمليا على واقع قمعي واستبدادي، عدواني ومأزوم.
هنا يكمن مرد الاصطدام الذي يقع عادة بين السلطة ومختلف التوجهات السياسية، الاجتماعية، أو الفكرية، المقتنعة بحقها في الوجود خارج استراتيجيتها التي لا مكان فيها لأي وجود مختلف. هو عنف مجرد من مقومات العقل، مهووس بشن حملته المتوحشة على عقل لا قبل له بتداعياته. وفي ظل هذا التنافي التام لإمكانية تعايش نقيضين متنافرين ومتباعدين، تتسع الهوة وتكبر بين بؤس الواقع، وما يتبادر إلى الذهن من إبدالات مؤجلة.
إن السلطة الشمولية في اعتمادها على منهجية العنف، تكون جد منسجمة مع هويتها، باعتبار أن وجودها يتوقف أولا وأخيرا، على مقدار نجاحها في تدمير كل ما يمت إلى العقل بصلة، ما يستدعي تنشيطها لرقابتها الممنهجة والصارمة على كل البنيات المؤسساتية، التي قد يكون لها دور من قريب أو بعيد، في تكوين العقل وفي تجديد إواليات اشتغاله. وإشارتنا إلى المؤسسات، تحيل في واقع الأمر على فضاءات تمويهية، تنعدم فيها أي علاقة جدلية بين ظاهرها وواقع حالها. ذلك أن السلطة الشمولية تحرص هي أيضا على تحديث عدوانيتها، من خلال إضفاء أكبر قدر من النعومة الشكلية عليها، كي لا تشذ عن المعايير العامة والمشتركة، المتعارف عليها في المنتظم الدولي. وضمن هذه الاستراتيجية، يمكن الحديث عن الأنظمة الشمولية الجديدة، التي تمتلك من المقومات التحديثية، ما لن تستطيعه همة الحرباء، خاصة أن الانتظام الحثيث لمكونات العالم ككل، في سلك الكونية، لم يعد يسمح لهذا الضرب من الأنظمة بممارسة استقوائه على شعوبه وفق الطريقة البدائية، خاصة أن الانتماء إلى هذا السلك، أصبح من أهم المسؤوليات الملقاة على عاتق كل دولة، علا شأنها أو انخفض. بمعنى أن المنتظم الدولي، أصبح يولي اهتمامه الكبير للمظاهر التحديثية التي تتميز بها كل دولة على حدة، أكثر من اهتمامه بحقيقة ما يحدث تحت هذا الإهاب التحديثي، الذي يعتبر من وجهة نظر الملاحظ، شأنا داخليا ليس للمنتظم الدولي أن يوليه أيما اهتمام يذكر.
والغريب في الأمر أن هذه الازدواجية لاقت هوى لدى طوية الأنظمة الشمولية الحديثة، حيث يتحول بريق الظاهر المصادق عليه من قبل الآخر، إلى حجاب حقيقي يخفي مختلف أنواع الخروقات اللاإنسانية واللاقانونية الممارسة بشكل حداثي في حق الشعب، الذي لا يدع أدنى فرصة لمعاينة ما يحدث على أرض الواقع المر من مآس، يشيب من هولها الولدان.
وكما هو ملاحظ، فالعنف الممارس من قبل الأنظمة الشمولية الحديثة، يعتبر أشد بأسا، وأشد ضراوة من العنف التقليدي، بفعل تخفي ملامحه الحقيقية تحت بريق الشعارات المؤسساتية الموحية بتوافر أرقى شروط الديمقراطية والحرية، في ما هي مجرد حيطان حديدية، يحتمي بها النظام، من كل الاختراقات والهزات الداخلية أو الخارجية، التي يحدث أن تهدد كيانه بين الفينة والأخرى.
ولعل أقسى ما يمكن أن يعانيه المواطن في ظل هذه الوضعية، هو مراوحته بين قطبين يتميزان بأقصى درجات التضاد، يحيل أحدهما «نظريا «على أجواء الأنظمة الديمقراطية، التي ينعم فيها مواطنوها بالحد المطلوب من الحياة الشريفة والعادلة. في ما يحيل الثاني عمليا على واقع قمعي واستبدادي، عدواني ومأزوم. وهي مفارقة بأقصى درجات العبثية واللؤم، التي من شأنها الإلقاء بالمواطن في دوامة رهيبة قوامها الحيرة المشوبة بأبشع حالات الرعب والتوجس. فهو من حيث الظاهر منتم إلى دولة توحي مؤسساتها الدستورية والتشريعية، بضمانها للحقوق كافة التي ترتقي بحياته إلى مصاف الدول الديمقراطية، غير أنه من حيث الباطن، مطارد أبداً بمهماز التعنيف، التهديد والمحاسبة، حتى أنه يتهيب من النظر إلى ظله، مخافة اتهامه بتطاوله على المقدسات، مع التذكير بأن آلة العنف المشار إليها في هذا السياق، تشتغل على جميع المستويات، المادية والرمزية، التي يتحمل مسؤولية إدارتها خبراء ومهنيون، ينتمون إلى الاختصاصات كافة، الأمنية والعقدية والثقافية والسياسية، ويمتلكون ما يكفي من المعرفة المتقدمة والحداثية، الكفيلة بإنجاز أكثر المهام تعقيدا وإيغالا في الترهيب والتعنيف والتبخيس.
وضمن هذه المفارقات الهجينة والمتطرفة، سينتبه المتأمل إلى أنه بصدد مقاربة واقع، تشكو شرائحه من مختلف الأعطاب السيكولوجية والعقلية والمجتمعية، أي الواقع ذاته الذي تستمد منها الكتابة حركيتها وحيويتها، باعتبار أن الكتابة منذورة للإقامة، حيث تتهافت التصدعات والخسارات المؤطرة بالرعب والمحاسبة والعقاب.
شاعر و كاتب من المغرب