الكتب الرديئة – الجيدة!

«طاسلوجة» هو اسم الحيّ الذي أُقيمَ على أرضه هذا العام معرض السّليمانية الدولي للكتاب في إقليم كردستان العراق، وكان المكان قبل سنتين مهجورا ليس فيه غير مطعم كباب، ومركز شرطة يقوم بفحص هويّات القادمين من «المركز»- أي بقية أرض العراق- قاصدين الإقليم. صار اسم الحيّ اليومَ «مدينة المعارض»، للسيارات، وللأثاث، وللكتب، كلّ هذا وعمال الإقليم يعملون منذ شهور عديدة بالمجّان؛ لا رواتب ولا مخصّصات ولا رشاوٍ.. إنما تُبنى البلدان بالإرادة وبالحسّ السليم بالمواطنة، وهذان الأمران لا تأتي بهما أموال الدنيا جميعها.
أغلب زوّار المعرض من الجنس الألطف، الشباب أكثر حضوراً من الذين في سنّي؛ عمر الأساتذة. الكتب المطلوبة هي الخاصة بتربية الأطفال وفن الطبخ والأزياء، بالإضافة إلى مذكرات الرؤساء والوزراء، الأجانب منهم وليس العرب. وعناوينُ مثيرةٌ أخرى مثل «كيف تصير مليونيراً»، و»تكوين الشّخصية في ستة أيام»، وكتاب يحمل هذا العنوان الغريب: «بناء عبقرية طفلك».
يأتي الطفل إلى الدنيا وهو كامل، نفحة ربّانية صارت وتشكّلت، ولا يمكن إضافة ولو نانومتر واحد في مساحة الخِلقة -النانومتر يساوي 10 أُس ناقص 9 من المتر- ويتمتع كلّ طفل بإحساس سليم بالوجود في بساطته الأولى، ويا ليته ظلّ قاصراً في أمر إدارة الأشياء والتصرّف في شؤون الحياة. العائلة تأخذ دورها الأوّل في تشويه حسّه الفطريّ، ثم يأتي دور المدرسة، والمجتمع، وعندما يبلغ سنّ العشرين يجد نفسه ضائعاً في بيئة غريبة لا يعيش فيها غير التنانين، وعليه أن يغدو تنيناً يشار له بالبنان. يطرح بيكاسو مسألة الطفولة بهذه الصورة: في النصف الأول من الحياة يتعلم المرء كيف يكون بالغا، وفي النصف الثاني يتعلم كيف يكون طفلا. كان المخرج السينمائي فيليني يقول إنه لو رُزِقَ طفلاً لتعلّم منه النظر إلى الوجود بعينين جديدتين. المشاهد السينمائية الرائعة، وكذلك اللوحات العظيمة والقصائد، والموسيقى كأنما نزلت من بين يدي طفل يرى الحياة أول مرة رامبو: العبقرية هي الطفولة المستعادة قصداً.
ما الذي يتعلّمه القارئ من كتب تحمل عناوين مثل: «كيف تصبح جيداً في أيّ شيء في ساعتين فقط»، «نصيحة للتغلب على التوتر اليومي»، «اتخاذ القرار وحلّ المشكلات»، «كيف تربّي طفلك ليصبح مليونيراً».
زرت في أحد أيام العمل بيتاً يقع في حيّ «الوزيرية» الخاصّ بالأثرياء في بغداد لمعالجة سيدة المنزل. تُوفّي الزّوج قبل سنين، وكان يعمل ضابطاً ومرافقاً للوصي عبد الإله. البيت واسع وذو شرفات بديعة، وتحيط به الحدائق من ثلاث جهات، مع شلّال جفّت مياهه. لم يترك الضابط وريثاً غير ابن لم يكن معنى لحياته غير أن يصادق باعةَ النفط في سبيل التقرّب من الحمير التي تجرّ العربات. يبدو أن هذا الخيار كان صعب القبول من قبل الأم، التي راحت تشرح لي الجهود العظيمة التي بذلها الأب، خرّيج جامعة أوكسفورد، من أجل تربية ابنه. كان جميع معلميه من الإنكليز، يدفع لهم الأب ما يطلبون وأكثر، ويدعوهم مع زوجاتهم إلى حفلات خاصة يقيمها لأجل بذل المزيد من الجهود. لم تهتمّ الأم في البدء، وحسبت تصرفات ابنها تعود إلى التغييرات التي تحدث للفتيان في فترة المراهقة. وعندما شعرت بميوله الغريبة الأطوار طلبت منه توضيح الأمر، لكنه كان يتهرّب من الجواب، ثم عرضته على طبيب نفسيّ استطاع أن يأخذ منه اعترافاً بأنه محمّل بمهمّة فوق طبيعية في استنطاق الحمير خصوصاً الإناث منها، بل إن هوسه بلغ به حدّ أن يؤمن بأن لهذه البهائم كرامة تفوق ما للبشر. وفي السنين الأخيرة عرف الابن العبقريّ الطريق إلى الكحول، ويبدو أنه ذهب في مغامرته مع الحمير بعيداً. لم يكن مجنوناً، وكان يطلب من الجميع أن يتفهّموا ما يقوم به باعتباره رؤى إنسانية، ويرى في التطوّر الذي يحصل عليه إبداعات للعقل الإنساني المدافع عن الحرية الجنسية.
رغم سنواتها التي أربت على الثمانين كانت السيدة الأم نشيطة لكنها تشكو من الحمّى المفرطة ومن قلّة النوم. الفحص السريريّ أثبت وجود ضعف في عضلة القلب، تعب فؤادها من ضخّ الدّماء طوال هذه السنين بدون جدوى. لم يتزوّج الابن، وتقلبت أمه بين أنواع العذاب بسبب عدم اكتراثه بالمعايير العامة وإدمانه الخمر وتشببه بالحمير. وخلُصَ به الأمر إلى أن يبني إسطبلاً لهذه البهائم وسط حديقة المنزل، بالإضافة إلى ما باحت به، كنت أقرأ في وجه المرأة حديثها مع نفسها. العدالة نادرة على سطح الأرض والظلم هو العامّ، وليس هناك من مسبّب يمكننا تعيينه كي نشخّص الحلّ. لماذا يدوخ العلماء والفلاسفة في البحث عن طرق النجاح، فالحظّ هو الموجّه الأول والأخير في رحلتنا القصيرة في العيش؟ كنت أصغي إليها، مشدوهاً بالطريقة الوجدانية التي تتكلّم بها، وكانت عيناها تلمعان، كأنما على وشك أن تبكي.
عالجت قلب السّيدة العليل، ولم يكن بمقدوري فعل شيء لخاطرها الكسير مع الأسف الشّديد، كما أني أثمّن لها أنها بقيت محافظة على سلامة عقلها. وأنا أخرج شيّعني مشهد حمارة «حيساوية» بيضاء كان الابن يربّت على ظهرها متودّداً، وتيقّنت عندها أن العلاج الذي قدّمته للمريضة غير ذي جدوى. وأنا أتجول في المعرض ظهرت لي كتب أخرى لها الاهتمام نفسه، وتحمل عناوين غريبة: «خمسون نصيحة للتغلب على التوتر اليومي»، «كتاب التفاوض الوحيد الذي ستحتاج إليه»، «من سيشدّ خيوطك». تتصفح الكتاب وتشمّ رائحة ورقه، وتكتشف أنه يختلف كثيراً. كأن له طبيعة بلاستيكية، لو سقطت قطرة ماء على الصفحة لامتزجت الحروف، وامّحت.
يكذب مؤلفو هذه الكتب، لكن كتبهم تنتشر بين الناس لأن الكذب المستعمل يكون من النوع الصادق، أي أنهم يبذلون جهودا عظيمة في تأليفها، فتغدو أفضل حالاً من الصدق الذي يرميه صاحبه بما يؤديه إليه ظنّه من دون يقين. في السنين الأخيرة صار لهذه المطبوعات دور خاصة للنشر، والمعارض في كل مكان تزيّن بها واجهاتها، في الوقت الsذي يقلّ فيه الطلب على كتب الأدب والعلم والفلسفة والاجتماع والفكر.
قرأت كتاب «كارنيجي» «دع القلق وابدأ الحياة» أكثر من مرّة، ورأيت أن الشهرة التي حصل عليها المؤلف سببها قرّاء لم يعرفوا القلق، ولم يقدّم إليهم الكتاب شيئاً غير الخيال، وغير مادة للتباهي من قبل سليمي الذهن يروون حوادث الكتاب في ما بينهم للتشفّي من أولئك الذين تتمزّق حياتهم في الليل والنهار بسبب مشاكل الحياة. المؤلفات التي لا تأخذ معضلات عامّة الناس بجدية يُطلق عليها اسم الكتب الرديئة الجيدة، وهي التي تزرع أملاً لا عقلانياً يجده الكثير منا معقولاً، ويتمسّكون به على الرغم من بطلانه الحتمي، في ما لو فكّرنا به بصورة واقعية.
في مجموعة الشاعر نامق سلطان «مثل غيمة بيضاء» قصيدة عنوانها «دع القلق»:
«كتابٌ يعلّمُ/ كيف تعيش بلا قلق/ يعني/ أن تكون علبةَ جبن فارغةً/ يركلها الأطفالُ/ أو جذع شجرة ميتةٍ/ تأكلها الأرضةُ/ أنا لا أقرأ كتباً من هذا النوع/ ولا أتقبّلُ نصائحَ ممّن/ يُفترضُ بأني لن أصل الجنة/ ما لم أركب معهُ» ويختتم الشاعر قصيدته بمقطع لو سمعت به مؤسسة «كارنيجي» لأغلقت أبوابها فوراً، وأعلنت الإفلاس:
«جاري بائع متجوّل
كثيراً ما يسألني أوراقاً زائدةً
سيفرح كثيراً بهذا الكتاب»
يُطلق على هذه الكتب اسم «الكتب الرديئة الجيدة»، وهي المؤلفات التي تحقّق أعلى مبيعات على مرّ السنين، وهذا الأمر غامض حقاً ويحتاج إلى دراسة. إن كل إنسان يمتلك خصوصيته الذاتية المتفردة بشكل عامّ، وقدس أقداس شخصيتك يكشفها الكتاب الذي تحمله في حقيبتك.
كلما كانت تربية الطفل «طبيعية» ضمن له الأبوان حياة سليمة من أمراض النفس والمجتمع. لديّ صديق مُوسِر لكنه يصيح في آذان أبنائه صباحا مساءً: «اخشوشنوا فإن التّرف يزيل النّعم». أكثر الأولاد صحّةً وبناءً من ناحية البدن والنفس هم الذين تربّوا في الريف أو الصحراء: أندريه جيد: يجب تذوّق الصّحراء لفهم ما معنى: ثقافة.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية