في البدء كانت الكمّامة كائنا لغويا بسيطا لا يُلقي له الناس بالا غير أصحاب المعاجم الذي يفتشون في جذور الكلمات وأصولها، فيقولون لنا حديثا من قبيل: «تكمَّمَ، تكمَّم بـ، تكمَّمَ في، يتكمَّم، تكمُّما، فهو مُتكمَّ والمفعول مُتكمَّم به، ويقال تكمَّم الرَّجلُ أي: وضع الكِمامة على أنفه وفمه، لتقيه الغازات ونحوها، تكمَّم بثيابه، تكمَّم في ثيابه: تغطَّى بها من شدّة البرد أو نحوها». أمّا الآن فنحن إزاء امبراطورية «الكمامة» التي تغزو العالم بصمت بعد أن أدار لهَا العالم ظهرهُ لقرونٍ. فما الذي حدث؟
الإجابة في اعتقادي كامنة في أنّنا نتعامل مع الأشياء وفق الإكراهات التي تأتي بها، ونتعامل معها أيضا وفق ما نتسلح به من معارف لفهمها، وليس في ما نملكه في هذا السياق من الحديث شيء يهمُّ الكمامة في طبيعتها الطبيّة أو أقيستها، فهذا مما لا شأن لنا فيه، ولكن ما نملكه هو قراءة تفهم انبعاث هذا الكائن السيميائي وتوغّله في الحياة اليومية بهذه السرعة، قراءة يتقاطع فيه اللّغوي مع أنساق أخرى يمكن أن نختزلها في المقاربة السيميائية للأشياء.
في دائرة الطرح السيميائي يجد الباحث نفسه أمام فسحة لمعاينة السلوكات كافة، التي ينتهجها الأفراد والجماعات، من لغة ولباس وطقوس اجتماعية ودينية متعدّدة، فالثابت أنّ السيميائية – وبخلاف النظريات الأخرى- تتسع لتغطّي جميع ممارسات الإنسان كاشفة عن البيت الخلفي المسير لها ضمن سيرورة دلالية معقّدة تعكس وعيا معرفيا خفيا. وعلى هذا الأساس بات «بالإمكان الحديث عن سيميائيات للصورة الفوتوغرافية وأخرى للإشهار كما يمكن أن نتحدّث عن سيميائيات للضحك والبكاء والفرح واللباس، وطريقة استقبال الضيوف والإشارات، إلخ» على حدّ قول الكاتب سعيد بنكراد. وضمن هذا التصور نلتقط لعبة سيميائية أخرى نجدها في اللباس بوصفه «نظاما من العلامات له في علم العلامات موطئ قدم» كما أشار توفيق قريرة. ونخصّص النظر تحديدا في «الكمّامة» التي أضحت في واقعنا اليومي سلوكا فرضته إكراهات الفيروس المتفشي في أرجاء المعمورة، وعلامة أهدتها لنا الثقافة بعد أن بعثتها من مرْقدها القديم.
في البدء…لقد حلّ فيروس كورونا على العالم زائرا ثقيل الظلّ، وكبّل بكلّ قوته حركة التاريخ المنتصرة دائما إلى المضي قٌدما، وسيطر الخوف على أرجاء المعمورة، فبات الأمر وكأنّه فاصل إشهاري ينتظر ناس مروره ولكنّه يأبى.
ولمّا كان الزائر حين يحلّ يأتي محملا بزاده فإنّ هذا الفيروس أيضا أتى وقد جرّ معه ثقافة كاملة، زعزعت ما هو كائن، وغيّرت طرائق التفكير ثقافة ورياضة واقتصادا، إلخ. ولعلّ ما يلفت الانتباه في كلّ هذا التغيير هو أنّ الفيروس رسّخ ثقافة وقائية، انسحبت على طرق شتى من بينها الكمامة التي مثّلت العنوان الوقائي الأوّل الذي غزا العالم وأصبح إلى يوم الناس، هذا نمطا عاما تسير وفقه الشعوب والأفراد. غير أنّ ولادة هذا الكائن (الكمامة) ستتسم بحالة تطوّر سيميائي يصاحب هذا السلوك، فالكمامة التي بين أيدينا تتخذ في كلّ فترة أشكالا جديدة تنبئ عن تغيّر في منطق التفكير.
حين تُحدّق في جغرافيا «الكمامة» التي جاء بها كوفيد 19 بوصفها نوعا جديدا من اللباس له ما يؤصّله تراثيا، تشعر بأنّك أمام كائن علاماتي غريب، رغم ما يبدو عليه من سمات الألفة، نظرا لما نعرفه مسبقا عن الكمامة من تفاصيل ورثها العقل الجمعيّ العربيّ. وتشعر في الآن نفسه بأنّ وراء هذا الكائن عقلا مدبرا يهندس ويؤسّس لفعل مقصود، يريد من خلاله بناء تصوّر ونسق معيّن. فكمامة اليوم ليست هي كمامة الأمس، فهي أكثر إبداعا من ناحية الشكل، وأعمق دلالة من ناحية المضمون، حيث أضحت سلوكا معبرا يختزل فلسفة جديدة، حيث سارع الإنسان إلى تهيئة مناخ يدور في سياق تصوره وأفكاره ومواقفه، إذْ بنا نراه ينخرط في التأسيس إلى الكمامة الرياضية مثلا، التي تحمل شعار ناديه المفضل. ففي تونس – وعلى سبيل المثال- اتجه الأفراد والجماعات إلى اقتناء الكمامة الرياضية كلٌّ حسب فريقه، وهي طريقة تعبير تعوّض التعبير باللغة، ليكون شعار الفريق وألوانه مرتسما فوق مساحة الكمامة، علامة دالة عن انخراط هذا الفرد ضمن منظومة تعبيرية معيّنة، وهذا السلوك على بساطته عند البعض يُخفي تفكيرا عميقا تتحرك فيه العلامة. والطريف أنّ هذا السلوك انسحب على بقية العالم ليثبت حركية العقل الباني لهذا النسق العالمي، حيث انتشرت الكمامات الرياضية عند كلّ الفرق العالمية.
شكل الكمامة في فلسطين مختلف، فالشعب هناك يحاول أن يوجّه رسائل مستمرة وواضحة إلى العدو الصهيوني، باللباس والكلام، وحتى الاهتمامات الرمزية اليومية.
واستنادا إلى ذلك، أدخل البعض – من دون وعي- كوفيد 19 في عمق الهوس الرياضي، حيث بات عاشقا رياضيا يفرض نفسه بقوة على ذهنية المتلقي، موجها إياه إلى شراء كمامة دون أخرى، وفق انتماء رياضي. ولعل هذا التحليل يؤكّد أنّ الإنسان يصنع بدائل في ظلّ الأزمات، فرغم تكميم الأفواه بالكمامة، فإنّ التعبير بقي يفرض نفسه بالعلامة، وبقيت العلامة هي ملاذ الإنسان حين يُجبر على الصمت. وقد نعلّل هذه الفكرة – وكما يرى البعض- بكونها تأتي في إطار التخفيف من حالة المزاجية السيئة، التي يمرّ بها العالم، أفرادا وجماعات، حيث تصرف النظر عن عمق المأساة والذهاب بالناس إلى مشاغل أخرى تدغدغ ذائقتهم، باعتبار الدور الذي تلعبه الرياضة في العالم، في الترفيه عن الناس. فضلا عن ذلك تلعب هذه سمة الجديدة التي أتى بها كوفيد 19 دورا تجاريا، نظرا لأنّ البعض دعا إلى ضرورة شراء كمامات الفرق، دعما لها وترويجا لمنتوجها، وقد انتهج نادي برشلونة الإسباني هذا النهج، حيث وصل بيع الكمامة الرياضية إلى 18 يوروا.
وفي نهاية هذا النبش في معمار الكمامة سيميائيا لا يتوقّف الأمر عند حدود هذا، فالكمامة اليوم تغزو حقولا أخرى، وتكوّن دلالات جديدة، وتبني تصورات حديثة، وتتخذ أشكالا عدّة، حيث نتعثر ونحن في صلب حياة العلامة على نوع آخر من الكمامات، وهي الكمامة المقاومة، الكمامة التي تُبنى سيميائيا وفق منطق النضال، فنجد على هندستها شعارات مناهضة للعدو، أو شعارات تحمل نفسا ثوريا، ولعلّ أبرز دليل على ذلك الكمامة بألوان الكوفية الفلسطينية، فقد ذهبت الكاتبة فاطمة خليفة، إلى أنّ الفلسطينيين استوحوا من الكوفية كمامات تغطي الفم والأنف، وتخفي ملامح الوجه، حتى لا يتعرف إليهم العدو الإسرائيلي. شكل الكمامة في فلسطين مختلف، فالشعب هناك يحاول أن يوجّه رسائل مستمرة وواضحة إلى العدو الصهيوني، باللباس والكلام، وحتى الاهتمامات الرمزية اليومية.
وفي هذا الصنيع تكون الكمامة هنا بمثابة نصّ أو قصيدة تحمل نفسا مقاوما. وليس بين النصّ والقصيدة من جهة والكمامة من جهة أخرى اختلاف تعبيري، فالتعبير عن المقاومة واحد، رغم تمايز الطرق، وهذا دور السيميائيـــة التي تفتش في الكيفية التي تُبنى بها دلالات الأشياء مــــن خلال العلامات، سواء أكانت علامات لغوية أو غير لغوية.
ولهذا فالكمامة اليوم تشقّ طريقها نحو بناء سلوك في اللباس، سيبقى راسخا في تاريخ الشعوب والأفراد، وقد يتحوّل في يوم ما إلى موضوع دراسة، وقد يسائلنا أبناء المستقبل يوما فنستطيع الإجابة عن هذه الأكوان.
٭ باحث تونسي