عندما رد إمبراطور بلاد فارس التركماني نادر أفشار، في مجرى القرن الثامن عشر، استباحة الأفغان للهضبة الإيرانية على أعقابها، وفتح قندهار وأخضع قبائل الباشتون، شاء أن يتوسع بغزواته بعد أكثر في اتجاه الهند، فقصم ظهر السلطنة المغولية فيها، واستولى على عاصمتها دهلى (دلهي القديمة أو شاه جهان آباد)، ولم يتردد في إصدار أوامره بقتل عشرات الآلاف من سكانها حين أظهروا له المجافاة بعد أن حاول التودّد إليهم، ثم خرج نادر وجيشه في مايو 1739 من المدينة المستباحة ومعه عرش الطاووس الذي يعود الى حقبة السلطان المغولي شاه جهان، بالإضافة الى كنز جواهر عرش الطاووس.
أما العرش الطاووسي فقد ضاع خبره أو تبدّد في الاضطرابات التي دخلتها بلاد فارس في إثر اغتيال نادر شاه عام 1747، ومع ذلك فقد جرى العرف من زمن نادر على تسمية العرش أو «التخت» الذي يجلس عليه الشاه القاجاري فالبهلوي بمكنّى الطاووس.
أما الجواهر، فمن أبرزها ألماستي «درياي نور» و«كوه نور»، أو تباعاً بحر النور وجبل النور.
توارث شاهات إيران، سلالة في إثر سلالة، ماسة «درياي نور» وصارت ملكاً للجمهورية الإسلامية بعد الثورة، ومستقرة في محفوظات البنك المركزي الإيراني.
أما «كوه نور» فوجدت طريقها إلى الأفغان من بعد مصرع نادر شاه، ومنهم الى المغول مجدداً، ثم الى سيخ البنجاب لما عظم شأنهم، قبل أن يستولي عليها الانكليز عام 1839 وتصبح لاحقاً جزءاً من مرصعات تاج الملكة فيكتوريا، المعلنة إمبراطورة على الهند عام 1877، ويجري توارثها وصولاً حتى الملكة الراحلة اليزابيت الثانية.
مع الجدل «البوست كولونيالي» المتقطع المثار من الكاريبي الى جنوب آسيا مروراً بالسوشل ميديا العربية على خلفية وفاة الملكة، عادت حكاية الماسة «كوهينور» إلى الظهور، من حيث افترض فيها أنها الدليل الساطع على النهب والسلب الذي قامت عليهما الإمبراطورية البريطانية.
هذا مع إغفال أن درياي نور وكوه نور ماستان شقيقتان، سلبهما نادر أفشار نفسه من مغول الهند، ورثة بابر وهمايون وأكبر وجهانكير وشاه جهان.
الغزوات التي قام بها نادر شاه في القرن الثامن عشر لا تزال تحير مقاربات المؤرخين. هل كان بإمكان نادر أن يقود مشروعاً امبراطورياً حيوياً يهيمن على إيران وآسيا الوسطى والرافدين والهند، ويعتمد على شطحاته في توحيد التسنن والتشيع في صيغة «الإسلام السني الجعفري» التي اقترحها، ولم تلق في النهاية لا قبول أهل السنة ولا رضا الشيعة؟ أم لعبت غزوات نادر شاه دوراً إضعافياً لامبراطوريات مدافع البارود الإسلامية، بما سهّل الامور للاستعمار الأوروبي لاحقاً؟
فيما يتعلق بالسلطنة المغولية في الهند تحديداً، فهي بالتأكيد لم تخرج سالمة، بل لم تخرج الا متهالكة من غزوة نادر والمذبحة المريعة التي اقترفها جنوده، لكن القومة الهندوسية ـ الماراثية، وتعاظم دور السيخ، وصولات الباشتون، وتباعد الحكام المحليين، كل هذا كان سابقاً لضربة نادر شاه لتخت السلطنة البابورية المغولية. يبقى أن غزوة نادر شاه سرّعت المسار، الذي سيفضي بعد عقود قليلة عليه لبدء استعمار «شركة الهند الشرقية» البريطانية للهند، بدءاً من البنغال، ثم اجهازها على ما بقي من سلطنة مغولية. لا تطالب الهند اليوم الا بماسة «كوهينور».
مفارقات الكومنولث اليوم أكثر من ذي قبل، بخاصة وأنه ليس هناك موجب دستوري في البلدان المنتمية لهذه الرابطة بأن يكون تشارلز على رأس الكومنولث مثل والدته
«درياي نور» محفوظة في البنك المركزي الإيراني لا يطالب بها أحد. وبريطانيا لا تزال تصرّ على أن التنازل عن هذه الماسة لشركة الهند الشرقية حصل بشكل قانوني ولم يحصل بالاستيلاء. لكن الأدهى أنه ليست الهند وحدها من تطالب بالماسة. باكستان أيضاً. كذلك أفغانستان. فكل من هذه البلدان الثلاثة سرديته التي تحبك «أحقية» معينة حول هذه الجوهرة. بالنسبة لباكستان، كانت هذه جوهرة سلاطين مسلمين فعلام يعيدها الانكليز لدولة الهندوس مثلا؟ وبالنسبة الى الهند، الجوهرتان لهما تاريخ «عجيب» سابق حتى على ورود ذكر «كوهينور» في السيرة الذاتية لباني السلطنة المغولية – التركية الإسلامية في الهند، بابر شاه. مشكلة الماسة المصقلة الكبيرة الحجم «كوهينور» فيها تكثيف لتاريخ من الانفصال بين شطري شبه القارة الهندية، تحت اشراف المستعمر البريطاني وهو في طريقه الى أن يصبح مستعمراً سابقاً.
إذا ما وضعنا أفغانستان، المطالبة هي وإيران أيضاً وأيضاً بكوهينور جانباً، سنجد أن عضوية الهند وباكستان في كومنولث الأمم الذي تقوده المملكة المتحدة لم تجعل في المقابل أيا من البلدين يتنازل عن مطالبته باستعادة الجوهر، والسبب في ذلك هو قبل كل شيء أن الهند أولاً، ثم باكستان، عقدت فكرة الكومنولث من أساسه بعد الاستقلال، حين جرى اختيار النظام الجمهوري لا الملكي في البلدين. في مرحلة الإعداد المضنية للدستور الهندي أواخر الأربعينيات، خسر الرأي الذي كان يقول ببقاء الهند المستقلة على الولاء الشرفي للعرش البريطاني أسوة بكندا وأستراليا ونيوزيلنده، هذا مع أن حقبة طويلة من الكفاح الوطني التحرري في الهند كان تتم تحت شعار مساواة الهند بهذه البلدان في الإطار الإمبراطوري. ثمة تداخل واسع بين الامبراطورية البريطانية وبين الاستعمار البريطاني، لكن كان ثمة أيضاً في تاريخ الحركة الوطنية الهندية كما في تاريخ الحركة التحررية في المستعمرات البريطانية الأفريقية، مجال للتفكير بأنه يمكن، سواء من الناحية المبدئية أو أقله كتكتيك نضالي يتبع، المطالبة بتحقيق ما نالته الدومينيونز ذات الأكثرية البيضاء في كندا وأستراليا ونيوزيلنده من حقوق متساوية مع الحاضرة البريطانية، في إطار وحدة الإمبراطورية. وهنا من الضرورة التنويه بأعمال المؤرخ التركي جميل آيدين التي تظهر أنه قبل فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كان خيار تحويل الامبراطوريات الى صيغ تعاقدية ما بعد استعمارية، هو خيار مقنع بالنسبة لأقسام واسعة من الحركات الوطنية في المستعمرات، ولم تكن قد كتبت الغلبة بشكل حاسم لمنطق الدولة – الأمة المتجاوزة بشكل قاطع للعقد الإمبراطوري.
الكومنولث البريطاني كان بهذا المعنى يتضمن مشروع تجاوز الصيغة التراتبية الفظة، الاستعمارية البحت، في اتجاه امبراطوري ما. ليظهر من ثم أن ما قد ينجح بين بريطانيا وبين المستعمرات ذات الأكثرية الاستيطانية البيضاء لن ينجح في حال الشعوب الملونة. من هنا، كان التحول في الحركة الوطنية الهندية من خلال الاقتباس أكثر فأكثر من نموذج استقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا، ومن النموذج الفدرالي الأمريكي. نقاشات فترة وضع الدستور الحامية الوطيس في الهند أواخر الأربعينيات تمحورت الى حد كبير حول أهمية الاقتباس المزدوج من النموذجين البريطاني والأمريكي. في الوقت نفسه، انتهت الهند الى تقرير أنها جمهورية، ولو أنها لن تتبع النظام الرئاسي مثل أمريكا، لكن لا استعراش بريطاني ملكي عليها، ففتحت بذلك سابقة، واليوم، تنقسم البلدان المنتمية الى كومنولث الأمم الذي تقوده المملكة المتحدة بين جمهوريات وبين الدول الملتزمة بالتاج البريطاني كرأس الدولة الرسمي فيها.
لو اختارت الهند وباكستان الصيغة الملكية من الكومنولث لهان أمر الماسة كوهينور بالنسبة الى السردية الوطنية في البلدين، باعتبار أنها ماسة الكومنولث بامتياز. لكن النظام الجمهوري يجعلهما حكماً في موقف المطالب باستعادة الجوهرة، وفي الوقت نفسه يجعل تقرير لمن تذهب اليه الجوهرة أحجية طريفة لكن فيها الكثير من العبثية. للهند أو باكستان أو لأفغانستان أم لإيران؟ أو يجري تقاسم الماسة الكبرى؟ لكن متى يكون الاستيلاء معياراً محللاً، ومتى لا يكون؟ في نهاية الأمر لم يدخل نادر شاه دهلى إلا جزاراً ولم يخرج منها إلا وقد قتل معظم سكانها في تلك الفترة. بالتوازي، يظهر مآل الجوهرة «كوه نور» مفارقات الكومنولث اليوم أكثر من ذي قبل، بخاصة وأنه ليس هناك موجب دستوري في البلدان المنتمية لهذه الرابطة بأن يكون تشارلز على رأس الكومنولث مثل والدته. بالنسبة للأنظمة الملكية، كما في حال كندا واستراليا، هذا مفهوم طالما أبقيتا على هذا الولاء لهذه السلالة، ولم تحذيا حذو باربادوس العام الماضي التي اختارت التحول الى جمهورية مع البقاء في الكومنولث. لكن حتى بالنسبة للأنظمة الجمهورية في الكومنولث فهذه كانت متقبلة ولو أن ملكة بريطانيا ليست ملكة على بلدانها هي بأن تظل الملكة رأس الكومنولث بملكييه وجمهورييه. استمرار الحال ليس بهذه البدالة. ما قد نكتشفه أكثر فأكثر أن الكومنولث اصطبغ بمحيا الملكة الراحلة أكثر بكثير من أن يسهل له الاستمرار دون مساءلة أو استفهام من بعدها.
كاتب من لبنان
شكراً للكاتب على مقالاته التأريخية الممتعة !!
ولا حول ولا قوة الا بالله
نادر شاه مكروه أيضًا من قبلنا نحن الإيرانيين. بعد نادر شاه ، إيران ليس لديها سجل لمهاجمة أي دولة منذ ما يقرب من 300 عام.
لست أدري لماذا كتب الكاتب اسم الجوهرة مرة منفصل (كوه نور) ومرة متصل (كوهينور) مع أن الأسمين لنفس الجوهرة؟!
شكراً للكاتب لغزارة ثقافته ولتنوع مقالاته التاريخية التي قلما يلقي الضوء عليها أحد مع أنها مهمة جداً تاريخياً وثقافياً.
لان اسم كوه نور هي بالاصل منفصله تتكون من كلمتين فارسيتين كو بمعنى الجبل ونور نفس العربي