لا يمكن الحديث عن تجربة التنوير في الكويت، دون الحديث عن الراحل عبد العزيز حسين (1920/1996) ودوره في ذلك، ولم تجاف الشاعرة الكويتية سعاد الصباح الحقيقة، حين عنونت كتابها عنه «عبد العزيز حسين وحلم التنوير العربي» فواقع الكويت والعالم العربي في النصف الأول من القرن العشرين المتعثر بين تحديات الراهن وآمال المستقبل، كونه يحتاج إلى حلم بحجم الحلم، الذي تمثل في خاطر رائد التنوير في الكويت عبد العزيز حسين، الذي شغل منصب سفير الكويت في القاهرة، ثم مستشارا لأمير الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح منذ عام 1985، ورأس أول بعثة طلابية إلى مصر عام 1939، عندما كان طالبا في الأزهر، وفيه نال العالمية، واستطاع عن طريق بيت الكويت في القاهرة الذي دشنه الرئيس جمال عبد الناصر عام 1954 تعميق الروابط الثقافية بين مصر والكويت عبر البعثات العلمية الطلابية الكويتية إلى مصر، فقد كتب (إننا نعمل على أن نقطع في نهضتنا خلال ربع قرن ما قطعه غيرنا في عشرة قرون).
والطريق الوحيد لتحرير الإنسان العربي من التخلف والتبعية والفقر والاستبداد، يكون عبر المدارس ومن المدارس الأولى في الكويت المدرسة المباركية والمدرسة الأحمدية، ثم وضع اللبنات الأولى في هيكلة التعليم الحديث وديمقراطيته، وإتاحته للذكور والإناث، وكانت الثقافة التقليدية تقتضي منع البنات من التعليم وحجبهن في البيوت.
خطا المجتمع الكويتي خطواته الأولى في التطوير والتحديث، ذلك المجتمع الذي اشتكى من خموله ورجعيته وجموده الشاعر فهد العسكر (مقالي المنشور في «القدس العربي» بعنوان فهد العسكر وتحديث الكويت بالشعر 19 مايو/أيار 2022). ولم يكتف عبد العزيز حسين بالجانب الوطني، بل امتد إلى الجانب القومي، فالثقافة والمعرفة هما الطريق إلى المستقبل ولم الشمل العربي تحت مظلة الأنوار التي تصنعها المدرسة والجامعة والمؤسسات الثقافية الفاعلة، والربط بين الماضي العربي العريق علميا، ومنجزات الراهن فكانت له اليد الطولى في المساهمة في تأسيس معهد تاريخ العلوم العربية في فرانكفورت، ومعهد العالم العربي في باريس.
الكويت البلد الصغير رقعة جغرافية، الذي استقل عام 1961 واسمه القديم «القرين» وكأنه في طرف الخريطة يهز الخاصرة العربية ليكف الجسد العملاق عن تثاؤبه وتأوده وغنجه، مستسلما إلى خدر الماضي ورصيده القديم، ليتأسى بالدول الحديثة في الأخذ بالنهضة والعلم كشرط للتقدم والتحرر، عبر مؤسسات وهياكل حديثة ومناهج علمية موثوقة لتأهيل العقل واستدرار فاعليته الحضارية، ولتجارة اللؤلؤ التي اختص بها أهل الكويت، رمزية فإذا كان الصيادون يغوصون من أجل اللؤلؤ، فإن رواد التنوير في الكويت غاصوا من أجل ثمار العقل ونتاج الحضارة في سبيل إشاعة العلم والاقتباس عن الآخر، والتثاقف فكان هذا الجيل الذي عمل مع عبد العزيز حسين بطريق مباشر، أو غير مباشر كعبد الله زكريا الأنصاري وصقر الشبيب وعبد العزيز الرشيد مؤرخ الكويت ومنشئ مجلة «الكويت» الذي ساهم في تطوير المسرح في الكويت، مع العلم أن المسرح الكويتي هو الرائد في منطقة الخليج، ويعود تاريخه إلى عام 1922، ولزكي طليمات فضل في تطويره، وأحمد مشاري العدواني مؤلف النشيد الوطني الكويتي والشاعر أحمد السقاف، الذي كرس الديوانية كفعل ثقافي ودعمها وهي تشبه الصالونات الأدبية في مصر، وكان لها الدور الرائد في اللقاء بين المثقفين وتبادل الأفكار والمشاريع الإصلاحية، وهو الذي عهد إليه الشيخ صباح الأحمد بإصدار مجلة «العربي» درة المجلات العربية، وسفيرة الكويت إلى العالم العربي، ناهيك عن النادي الأدبي الذي تأسس عام 1924 وترأسه عبد الله جابر الصباح.
حراك أدبي وفكري وثقافي واجتماعي في الكويت في تلك الفترة تكرس بديمقراطية التعليم وحداثته، والمساواة في طلبه بين الذكر والأنثى من أجل تجاوز البنى العتيقة للمجتمع نحو أفق الديمقراطية والحداثة، وتخطي مرحلة التقليد والرجعية التي تناوئ كل جديد وكل فكر علمي مستجد لحساب الثقافة القديمة التي فقدت في معظمها صلاحيتها أمام راهن جديد. وكان لتأسيس جامعة الكويت عام 1966 التكريس الرسمي لمسار التحديث والأخذ بالتخصص والتعمق المعرفي وفق مسار أكاديمي محترف، يلبي احتياجات الوطن ولتكريس الجانب العلمي والمعرفي استقدمت جامعة الكويت أقطاب المعرفة كأحمد زكي وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا وعبد الرحمن بدوي وغيرهم، وعن طريق مساهماتهم في العمل الأكاديمي والنشاط الفكري، محاضرة وتأليفا ومناظرة، مارست حوارا فكريا وتنويريا امتد تأثيره إلى كامل البلاد العربية، ويعكس هذا التوجه العام للجامعة في خدمتها للمعرفة الاستفادة من الكفاءات العربية ذات الإسهام المشهود له، بعيدا عن الدوغمائية والتجييش العاطفي والابتذال، وإشاعة الخطاب الفكري والفلسفي من شأنه الارتقاء بالفكر ومستوى النقاش في المجتمع، وتقبل الآخر المختلف وعدم إلغائه، والبحث عن المضمون والجدية والنفعية، لا مجرد الاجترار وتكريس المكرس وتحصيل الحاصل وهو التحدي الذي أخفقت فيه كثير من الجامعات العربية، فظلت بلا فاعلية علمية ولا إسهام حضاري فعلي معترف به لا ينكر.
ولا يمكن تخطي الدور الكبير الذي لعبه المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، تلك المؤسسة التي تعنى بالتنمية الثقافية في الكويت ويمتد تأثيرها إلى المحيط الخليجي والعربي، عبر إصداراتها التي لا تخلو منها مكتبة عربية فردية أو مؤسسية مثل «عالم المعرفة» «عالم الفكر» و«الثقافة العالمية» و«إبداعات عالمية» و«جريدة الفنون» و«المسرح العالمي» فمنذ إنشائه بمرسوم أميري عام 1973 سعى هذا المجلس إلى تكريس الفعل الثقافي والاحتفاء بالمنجز الإبداعي العربي والعالمي، والسلاسل المذكورة آنفا إن دلت على شيء فإنما تدل على فعل التنوير فكرا وممارسة على المستوى القطري والقومي، ولا شك في أن انتشار مثل هذه السلاسل خير ما يحارب به التطرف وإلغاء الآخر والانغلاق والجنوح إلى الماضوية، والاكتفاء بها تحت أي مسمى كان، وكان من العواقب الوخيمة لذلك على مجتمعاتنا معاداة الفنون والآداب تحت وطأة التبديع والتكفير والركون إلى الاكتفاء بما مضى من التاريخ .
ومن غير شك أن مجلة «العربي» خير ما قدمت الكويت لمواطنيها وللعرب قاطبة وهي المجلة التي دأبت على إصدارها منذ عام 1958 والتي رأس تحريرها أول الأمر عالم الكيمياء المصري أحمد زكي، تتلمس التوازن في الخطاب بين الراهن والسالف وخطاب العقل والوجدان، والانفتاح على الثقافة والفكر العالميين من أجل تكريس فعل القراءة الواعية في مختلف حقول الفكر والمعرفة والآداب والفنون .وقد كتب فيها من أصحاب الأقلام الكبيرة وأصحاب الإسهام الكبير في حقول الآداب والفكر والثقافة، العقاد وطه حسين ونجيب محفوظ ونزار قباني وعبد الهادي التازي وإحسان عباس وصلاح عبد الصبور وغيرهم. ولا تزال مجلة «العربي» منارة للمعرفة والأدب وصورة صادقة لدولة الكويت في اضطلاعها بمهمة التنوير العربي، كما يعكس الملحق الصغير الذي يحمل عنوان «العربي الصغير» الاهتمام بالطفولة وأن فعل القراءة هو سلوك يتكرس منذ نعومة الأظفار، وإن أطفال اليوم هم رجال الغد، فالمعرفة والثقافة والفنون خير زاد يقدم للطفل العربي، بغية تحقيق الجيل المنشود والنهضة الشاملة التي تحرر الإنسان العربي من التبعية والتخلف.
وستكون الثقافة عرجاء حبيسة النصوص والشهادات وأروقة الجامعة ما لم يعمم الفعل الثقافي ويتكرس في المجتمع عبر الفضاء الاجتماعي والمؤسساتي، وهو ما اضطلعت به المهرجانات الثقافية في الكويت مثل، مهرجان المسرح ومهرجان الموسيقى وصيف ثقافي ومهرجان الأطفال، دون أن ننسى الدور الكبير الذي يضطلع به مهرجان القرين الثقافي، منذ عام 1994 وهو أحد المهرجانات الثقافية العالمية التي تكرس الفعل الثقافي العربي في الفكر والأدب والنشاط الإبداعي عموما، والتوجه القومي ظاهر في تكريس فكرة « شخصية المهرجان» وتكريم صاحبها اعترافا بإضافاته النوعية إلى ساحة الفعل الثقافي العربي كحنا مينه، الطاهر وطار وجابر عصفور، غازي القصيبي وثروت عكاشة وفاروق شوشة وغيرهم.
وإذا كانت الكتابة، حسب رأي الشاعرة الكويتية سعاد الصباح، تهدف إلى التغيير بالدرجة الأولى تغيير الإنسان العربي عقليا واجتماعيا، فإن الاحتفاء بالشعر إبداعا ونقدا هو في ذروة الفعل الثقافي وذلك ما تكرس عبر جائزة سعود البابطين للإبداع الشعري منذ عام 1989 في الاحتفاء بالإبداع الشعري العربي وفي إصدار سلسلة معاجم البابطين لتواصل الكويت عبر جناحي العقل والوجدان الارتقاء بالإنسان العربي ليواكب الحضارة الراهنة ويسهم فيها مستهلكا ومنتجا فاعلا ومنفعلا. كما كان للكويت في المجال السينمائي حضور حضاري وقومي عبر جهود الراحل محمد السنعوسي وزير الإعلام في إنتاج فيلمي «الرسالة» و«عمر المختار» مما يؤكد في هذا الإطار على الفاعلية الحضارية والقومية والدينية في أنشطة الإنسان كافة.
كاتب جزائري