الكيان الصهيوني: مساران جدليان للمعالجة المستدامة لقلق الوجود والخوف من المستقبل

الكيان الصهيوني ومنذ إقامته على أرض فلسطين، وتشريد أصحابها، في واحدة من أبشع الجرائم البشرية، التي لم يشهد لها التاريخ مثيلا، حتى في العصور الغابرة.. لم يشعر بالاستقرار والأمان، بل بقلق الوجود، خاصة في عقول منظري استراتيجيته لتثبيت شرعية وجوده. وحتى بعد اتفاقات اوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية في رام الله، لم ينعم هذا الكيان الصهيوني بالاستقرار والأمان، بل على العكس تماما؛ كانت العمليات الفدائية تقض مضجع المستوطنين، خصوصا حين تنصل هذا الكيان عن التزاماته المنصوص عليها في اتفاقات اوسلو، ما دفع الفلسطينيين لمعاودة الكفاح والنضال بشتى الطرق المتاحة، لإجباره على التسليم بحقوقهم التي من ابرزها؛ إقامة دولتهم على ما تبقى من أرضهم، دولة ذات سيادة ومعترف بها دوليا وعاصمتها القدس الشريف.
في السنوات الأخيرة كان الحديث يجري عن تحالف عربي مع الكيان الصهيوني، للتصدي أو تشكيل جبهة ضد إيران وطموحاتها في المنطقة العربية، وهي محاولة لتبرير التطبيع المجاني بلا مقابل، بل محاولة بائسة؛ لصرف الأنظار عن المسار الحقيقي لهذا التوجه، ألا وهو صفقة القرن. أيدي كوهين الذي يظهر باستمرار على التلفزيونات العربية، في لقاء معه على قناة «روسيا اليوم» في برنامج «قصارى القول» الذي يديره العراقي الدكتور سلام مسافر، الذي صاغ أسئلته بذكاء، أخرج بها الحقيقة الغاطسة في لاوعي كوهين، قال حين سئل عن هذا التحالف؛ إن الكيان الصهيوني، لن يدافع عن العرب، وإن (إسرائيل) لا تدخل في حرب مع إيران لسواد عيون العرب.. التصدي لطموحات إيران هي مشكلة العرب وليس (إسرائيل) اي مشكلة مع إيران، كدولة وليس كنظام، وعلى العرب مواجهة إيران وحدهم بمعزل عن (إسرائيل). وفي اللقاء ذاته، قال حين سئل عن عملية التطبيع بصورة عامة، وعن زيارة نتنياهو إلى مدينة نيوم على البحر الأحمر، حيث التقى ولي العهد السعودي وبحضور وزير خارجية أمريكا؛ إن الزيارة حدثت بالفعل، وإن النفي السعودي لم يغير من واقع حدوثها أي شيء. العرب هم من يحاولون بناء علاقات مع إسرائيل وليس العكس، وإن إسرائيل لا تحتاج لتلك العلاقات، بقدر ما يحتاجها العرب، وهم من يدقون أبوابنا طلبا لتلك العلاقات. هذه الغطرسة والصلف الصهيونيان لا يتوقفان عند كوهين (الذي تربطه قرابة بكوهين الاخر، مدير الموساد الذي رافق نتنياهو الى مدينة نيوم) بل إن أغلب الصهاينة ينحون المنحى ذاته، ولو بدرجات مختلفة، وبخطاب مخاتل، والأدهى أن هذا الأمر لا ينحصر فقط بالكتّاب الصهاينة، بل أيضا بالمسؤولين، في عملية استخفاف مهينة ومذلة بالقدرة والقوة العربيتين، وهنا نقصد قدرة وقوة الأنظمة العربية البائسة والفاسدة، سواء التي رحلت، أو التي حلّت محلها إلا بعض الاستثناءات، وهي لا تتعدى الواحدة او الاثنتين. هذا الصلف الصهيوني ما هو إلا خدعة يخدعون بها أنفسهم، أو كذبة يكذبون بها على أنفسهم قبل غيرهم، وهم الذين يعرفون حجم القلق الوجودي الذي يعاني منه هذا الكيان، سواء على صعيد النمو الديموغرافي في طرفي الوجود، الصهيوني المغتصب، والفلسطيني صاحب الأرض الشرعي، أو على صعيد التطور المستقبلي في التشكيل المقبل للعالم.
من الخطأ الاستراتيجي التصور؛ أن صفقة القرن ماتت، أو أسدل الستار عليها، بتغير رأس الإدارة الامريكية، صفقة القرن لم تمت لأنها المعالجة الاستراتيجية للقلق الوجودي (لدولة اسرائيل). بايدن لا يختلف عن ترامب كلاهما عنوانان لكتاب واحد، بمضمون ومحتوى واحد، لكاتب واحد، الا بصياغة عنوان للإشهار والتسويق. بايدن الذي يمثل الجناح الوسط من الحزب الديمقراطي، القريب من الحزب الجمهوري لجهة الأسلوب والعمل، ونائبته كامالا هاريس المتزوجة من يهودي ناشط في لوبي «جي ستريت» وهي واحدة من لوبيات الضغط الصهيونية المتعددة في أمريكا، بالإضافة إلى إيباك.. مهمتها منذ وجودها في عام 2007 الدفاع عن مصالح وأمن ووجود (إسرائيل). كامالا هاريس لا تختلف عن زوجها، فهي زارت (إسرائيل) عدة مرات للتضامن والإسناد والدعم. جو بايدن هو الاخر قال مرة قبل سنوات، أثناء زياره له الى تل ابيب: لو لم توجد (اسرائيل) لعملنا على وجودها. لذا من الخطأ تصور ان بايدن سيختلف عن سلفه، بل نعتقد انه سوف يكون الأخطر على الدول العربية الهشة داخليا في المنطقة العربية، وعلى القضية الفلسطينية بسياسته التي ستكون فيها من الخدعة والنعومة الشيء الكثير، بما يُسهل تمريرها من تحت سقوف الأوضاع العربية الساخنة والمشتبكة، لذا فهذه الأوضاع وما ينتج عنها من أحداث ولقاءات وزيارات وتغييرات، تحتاج إلى التوقف كثيرا أمام كل واحدة منها وفحصها بعين العقل الثاقب، كي نصل الى حقيقة هذه الحركة، أو تلك، أو هذا التغير أو ذاك، وإلى حقيقة هذا الحدث أو ذاك، ومعرفة من يقف وراءها وأهدافه. تحاول أمريكا و(إسرائيل) جعل إيران عدو العرب المركزي ولا وجود لعدو آخر، بما في ذلك اسرائيل، في لعبة غش مكشوفة، لحرف مسار مخطط إعادة تشكيل الجغرافية السياسية لدول المنطقة العربية، او التعمية والتغطية على هذا الهدف المضمر، كي يتم تمريره تحت غطاء عداوة إيران للعرب.

تحاول أمريكا و(إسرائيل) جعل إيران عدو العرب المركزي ولا وجود لعدو آخر، في لعبة غش مكشوفة

إيران لها ما لها وعليها ما عليها وهي في كل الأحوال ليست حمامة سلام، أو حملا وديعا، إنها دولة مقاتلة، تبحث عن مصالحها وطموحاتها القومية. لكنها مع هذا ليست العدو الذي يهدد مستقبل الوحدة الجغرافية للدول العربية، لأن هذا، وببساطة لا يصب استراتيجيا في مصلحتها، بل يؤثر مستقبلا في وحدتها الجغرافية، على العكس مما هو في جعبة المخطط الصهيوني، بالتعاون وبتبادل الأدوار مع أمريكا، في تجزئة المجزأ من الدول العربية المستهدفة وفي المقدمة منها، العراق. لأن هذه الاستراتيجية هي الضمان المستدام لوجود (إسرائيل) بتحويل صفقة القرن، ولو بعد حين إلى واقع على الأرض وسط محيط عربي من الدويلات العربية الهشة المستقبلية، او من دول عربية مبلقنة، أي اقاليم مستقلة في دولة متحدة مما يجعل منها دولا ضعيفة وغير قادرة على الإمساك فعليا بقرارها المستقل، بفعل توزعه على إرادات متعددة في دولة واحدة اسميا. إن صفقة القرن وإعادة التشكيل الجغرافي للدول العربية المركزية، هدفان لأمريكا و(إسرائيل)..هناك ستة أحداث جرت في الآونة الاخيرة، لها علاقة في الذي سبق من هذه السطور لجهتي السبب والنتيجة: لقاء نتنياهو مع ولي العهد السعودي بحضور وزير الخارجية الامريكي – عودة التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية و(إسرائيل) – زيارة السيد محمود عباس إلى الأردن ومصر- استعداد السلطة الفلسطينية في العودة الى المفاوضات مع (إسرائيل) – اغتيال العالم النووي الايراني فخري زاده.
هذه الاحداث جميعها مترابطة ترابطا عضويا، في مسارين – تركيز مقولة أو فرية أن إيران هي العدو الأول للعرب وليس إسرائيل، باغتيال العالم الايراني من قبل اسرائيل وبضوء أخضر أمريكي، وبعون استخباراتي أمريكي، فأمريكا وإسرائيل حققتا غرضين، تصفية أو التخلص من شخصية علمية إيرانية، وتأليب إيران على دول الخليج العربي، الإمارات والسعودية، الذي كان من نتيجته؛ توجيه أصابع الاتهام للدولتين من قبل المسؤولين في ايران، مع ان الدولتين ليست لهما القدرة والإمكانية على القيام بهذا الاختراق الخطير لجهة المعلومة والتوقيت والتحضير والتنفيذ ـ التغطية على ما يخطط لفلسطين والدول العربية المستهدفة بشغل الرأي العام العربي والفلسطيني بالأوضاع الحالية المشحونة بالترقب لفعل عسكري مقبل، بالرد الإيراني، الذي سوف يقابله رد حاسم أمريكي، كما يقول ويهدد ترامب إيران به. مع ان التمعن بمعطيات الواقع، يؤكد أنه لن يكون هناك رد ايراني في الظرف الحالي، وربما لا يحدث لاحقا. وبالنتيجة ليس هناك رد أمريكي. صحيح أن الأوضاع الحالية على جانب كبير من الخطورة، لكنها، خطورة، في عين الوقت مسيطر عليها من الجانبين، الايراني من جهة والأمريكي والإسرائيلي من الجهة الثانية، لحسابات يفرضها على الجانبين، الواقع المتحرك على الأرض، والمتحكم بتداعياتها من الجانب الأمريكي والإسرائيلي. إنها لعبة شياطين خبيثة وذكية في آن، لن تتوقف إلا بتحقيق أهدافها، أو تُواجه، بمشروع نضالي وكفاحي، عربي وفلسطيني، يوقفها عند حدها، ويغير قواعد اللعب في الملعب العربي والفلسطيني على حد سواء، وبالتوازي والتزامن؛ دفاعا عن السلام الحقيقي، وعن الاستقرار الحقيقي، وعن الوجود، وعن الكرامة، وعن الآمال بحياة حرة تتطلع بثبات نحو المستقبل.
كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية