الكينونة المعتمة… أو استنطاق تاريخ الذئبية البشرية

يشهد عصرنا الحالي تَفَشِيّا مَاحِقا لأَفعال الشَرِّ على حساب أفعال الخير، ما حوّلها إلى ظاهرة جديرة بالمساءلة، أسوة بالمصنف الأخير للشاعر الفلسطيني السوري أحمد نسيم برقاوي: الكينونة المعْتِمَة (بيت الفلسفة، 2022، الفجيرة، الإمارات العربية المتحدة) الذي أكب فيه على فحص التفسيرات النفسيّة واللاهوتية والفلسفيّة لمفهوم الشر كما تعكسه كينونتنا المعتمة، من خلال إخضاع تلك التفسيرات إلى مِحَكّ السّؤَال والنَقْدِ، وَمُجَابَهَتِهَا بِالأحداث والماجَرَيَات المعَاصِرَة. وَوعيا منه بأنَّ العتمة التي ما فتئت تُخيم على كينونتا أمست من أقوى الموضوعات المثيرة للجدل في أيامنا، آثر أحمد نسيم برقاوي استنطاق تاريخيّتها استنادا إلى رُؤْيَة جَدِيدَة تُناقش قضايا مهمة من قبيل: موت الإنسان، والكينونة الرعاعيّة، وقبح الكلام، والكينونة والكذب، والأيديولوجيا، وفيسبوك، إلخ.
تحيل الكينونة حسب أحمد برقاوي على «الذات في تعيّناتها المختلفة والمتعددة»؛ ويقصد الذّات في صُوَرِهَا المتشعبة: التفكير، والحب والكراهية، والعدوان والحسد، والقتل، والتضحية والكذب والتصديق، إلخ. أما الكينونة في وجهها المعتم فتحيل على الذّات الميّالة إلى الإقدام على الشّر إزّاء الذوات الأخرى. ويتمظهر نزوع الشّر هذا في سلوكات عدة قد تبدأ بالشّتيمة وتنتهي بالقتل. هكذا، تتخذ الكينونة معان متعددة، حسب أهواء الذّات وميولها. يقول أحمد برقاوي: «لا معنى للكينونة إلا المعنى الذي نخلعه عليها، معنى الكينونة لاحِقٌ بوجودي، وليس قبل، إذ إنَّ العقل يخلق المعنى. فالحب، والكره، والمهنة، وكُلُّ مَا يَفيض عن الإنسان من سلوك ووعي مُرتبط ارتباطا شديدا بالمعنى الذي خَلَعْتَهُ عَلى حَيَاتِكَ، وعلى الحياةِ بعامة. وكُلُّ تَأَفُّفٍ وَرَفْضٍ وَتَمَرُّدٍ وقتل وتعبيرات، هذا كله ليس سوى التعبير العملي والمعنوي عن اعتقادك بأنّ هناك خرقا للمعنى الذي صيغ للحياة» (أحمد برقاوي، الكينونة المعتمة بيت الفلسفة -2022).
وَلَعَلَّ المعنى الذي تضفيه الذات على ذاتها، هو الذي يؤدي إلى انبجاس موقفها من الحياة والوجود ككل، إلى جانب كونه يعكس ويُحَفِّزُ الفرد على الرّضا أو يُحَرِّضُه على الرّفض، الحب أو الكره، الخنوع أو التمرد، التشاؤم أو التفاعل. وفضلا عن اتصال أهواء الحب والتدمير بالبنى البيولوجية الموروثة، نلفيها تتصل اتصالا وثيقا بالبنيات الثقافيّة وما يطرأ على أنظوماتها من تحولات، يقول أحمد برقاوي: «في المجتمعات المستقرة ذات الحياة المتميّزة بالوفرة، وتلبية الحاجات الضرورية، والمتمتعة بحظ جيد من الأمان والحرية والحق المقونن، يحضر الحب كسمة عامة من سمات هذا المجتمع، بينما يغدو التدمير حالة فرديّة أو عملا محدودا في جماعات صغيرة. وبالعكس حين يكون مجتمع ما تحت حكم الديكتاتورية الموسومة عادة بعنفها، وحين يعيش حياة ملؤها الخوف والغضب والفقر؛ فإن غريزة التدمير لديه تنمو نموّا سرطانيّا، وإن كانت مكبوتة بسبب القمع الذي يحول دون ظهورها. فغريزة الغباء العبقري لغريزة التدمير لا تسمح لمن يمارسها بالتفكير في التبعات المقبلة لسلوك غريزته التدميرية، حيث تكفي مصادفة واحدة لتنفجر غريزة التدمير المضادة، وتبدأ مرحلة القتل».
هكذا يحرص أحمد برقاوي في هذا المصنف، على تشريح الكينونة في وجهها المعتم، محللا ومتفحصا مفاهيم الشر والعدوان (=الكينونة المعتمة) ليقابلها بمفاهيم الحب والخير (الكينونة المشرقة). مبرزا أنّ كلّ سلوكٍ يرمي إلى إيذاء الآخر معنويّا أو جَسَدِيّا، يُعَدُّ شَرّا، علما أنّ رأس الشر القتل (=الحرب). ويسدد كل سهام نقده صوب الشر الأيديولوجي (= ادعاء امتلاك الحقيقة) يقول أحمد برقاوي: «كل أيديولوجيا تعتقد بأنها تتفرد بامتلاك الحقيقة، والحقيقة المطلقة وتتطلع لتحقيقها على الأرض أيديولوجيّا تنطوي على الشّر بالضرورة. وأشرّ الأيديولوجيات على الإطلاق هي الأيديولوجيا الأصوليّة لأنها شَرّ مُستتر يختفي وراء المقدس الأثير. الشر الأيديولوجي شر قاتل».
لَا رَيب في أنَّ الشر نُزوع متأصل في الذات الإنسانية، وتتحكم فيه دوافع بيولوجية ونفسيّة واجتماعية وثقافية (=العنصرية، رفض الاختلاف). وقد جاءت الدولة من أجل لجم هذا النزوع الذي يُعَبِّرُ عن أشكال العنف المتعددة في الذات الإنسانية (الإنسان ذئب لأخيه الإنسان) ومن ثم، وضع حد لحرب الكل ضد الكل، غير أنَّ البشرية كما يقول برقاوي: «لم تبرأ من الذئبيّة ومظاهرِها، فلا تزال الحروب منذ نشأة المجتمعات حتى الآن مستمرة، سواء أكانت حروبا أهليّة أو حُرُوبا بين الدّول، وأيضا الصّراعات على السلطة لم تنته؛ بل أضيفت إليها الصراعات الناتجة عن المعتقدات والأيديولوجيات النافية لبعضها، وفي الحقيقة، إنّ القوة والمصلحة ونزعة الهيمنة والتسلّط لا تزال أكثر تعبيرا عن الذئبية البشرية، سواء تعينت هذه الذئبيّة في سياسات الدول أو في جماعات عنفيّة، أو في أنظمة مستبدة حاكمة». لا ينفك العقل البشري يُقاوم كل أشكال الشّر لأنها لا تليق به، لاسيّما أن الشّر ليس من شأنه سوى إفساد الحياة المجتمعيّة البشرية. لذا، يستمر العقل «في خوض معركة البحث عن المشترك الإنساني، وعن القيم المشتركة، والدفاع عنها، والسعي إلى أن تتحول إلى نمط حياة للبشرية». من المؤكد أنّ تحقق هذا المراد يتطلب مزيدا من الاستقامة، لاسيّما أنه مرادٌ بطيء التحقق وصعب المنال، غير أن هذا الأمر حسب برقاوي، يجب ألا يثير تشاؤم النخب والفاعلين الاجتماعيين، بقدر ما يجب أن يحفز إرادتهم الخيّرة ويكبح مساعي اليأس والقنوط لديهم ، حتى يتسنى لهم الاستمرار في مسيرتهم التي ترمي إلى «تأسيس خطاب تاريخي يتجاوز الخطابات المؤسسة للوعي الزائف بالحياة، خطاب يصوغ المشترك الإنساني على نحو يكون فيه قادرا على خلق نزوع إنساني نحو التعايش، بلا خطاب يبرز العنف والقتل والهيمنة والحروب».
لماذا لم تسلم الإنسانيّة من مأساة القتل؟ هل يكمن السبب في هوى التدمير المتأصل في الإنسان؟ أم إلى تضارب المصالح والمطامع في الثروة (نزوع التوسع والاحتلال) أم إلى حب التمسّك بالسلطة؟ يجيب برقاوي قائلا: «إنّ القوة سواء أكانت عائدة لإمبراطورية توسعيّة، أو نظام مستبد أو حزب فاشي يبعث كل الأخلاق الغريزية النافيّة للآخر، تعلم انهزام القيم الإنسانيّة، التي تُعلي من شأن الإنسان، فتتوحد أيديولوجيا القتل مع الأخلاق الغريزية، ويصبح قتل الآخر السمة الأبرز لمثل هذه الوحدة، فتنهار قيم التسامح، وينهار الإحساس بحزن الآخرين على ذويهم المقتولين، ولا تعود أشلاء الأطفال تثير أيّ إحساس بالحزن أو الذنب»… «ليس هناك أخطر من القتل إلا أيديولوجيا القتل، الأيديولوجيا التي تشرعنه وتتغزل به».
من الواضح أن مصنف أحمد برقاوي ينطوي على رسالة صريحة: ليس هناك مطلب أخلاقيّ يلِّح على ذواتنا المعطوبة بشكل أقوى وأشد من ذلك الذي يرفع شعار احترام الحياة والكرامة، مطلب لا يتردد في التعبير عن امتعاضه من كل فعل ورغبة تتيحان لنفسيهما سُبل انتهاك القِيم الأخلاقيّة الإنسانيّة الكونيّة بتشريع سفك دماء الآخر المختلف، سواء كان دينيّا أو غير ديني، وترويعه وسرقة أملاكه والتمثيل بأعضائه واغتصاب واستعباد فلذات أكباده، لا لشيء سوى لأن هذا الآخر آثر أن يتخذ لذاته نطاقا رمزيّا قيميّا، يوجد خارج المنظومة الرمزيَّة القيميّة الشاسعة المجال الاجتماعي والسائدة فيه. وهو مطلب أخلاقي طبيعي بالدرجة الأولى وقد لا يحتاج إلى نظام تربوي تعليمي لترسيخه في أذهان الأفراد، بقدر ما يحتاج إليه من أجل دعمه والارتقاء به لمستوى أفضل، على أنّ هذا المطلب ينبجس عن غرائز أخلاقية نكاد نجزم أنها انقرضت وتلاشت عند أصحاب بعض الأيديولوجيات التي أخذت على قتل الناس بدم بارد، حتى قتلت داخلها الضّمير الطبيعي الباطني الذي يقضي بعدم قتل الآخر وتعريضه للتهلكة، فلو اطلع جان جاك روسو على أوضاع القتل والتدمير والتنكيل بالكرامة الإنسانيّة التي يشهدها السياق العربي والعالمي اليوم لتراجع عن اعتقاده في وجود قابليّة طبيعية للشعور بالتعاطف مع الآخرين.

كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية