نحتاج دائما إلى لحظة فارقة نسجل فيها وقفة مع الذات، لحظة حادة ودقيقة تشطر الزمن إلى نصفين، وتحدد الحاضر بشكل لا شكوك فيه، بحيث يصبح الماضي ماضيا فعلا، ننفصل عنه تماما، لنعيش اللحظة، ويصبح المستقبل مستقبلا فعلا، نخطط له بخطى ثابتة ورؤية مكتملة الوضوح.
فمشكلتنا مع الماضي الممتد فينا حد العبث بحاضرنا، تفاقمت كثيرا حتى تعذر علينا أن نعيش الحاضر، وأعتقد أن الأزمة العربية والإسلامية عموما، تكمن هنا، في هذا التقسيم الزمني الذي خرج عن إطار الزمن الحقيقي، كون الوقفات الزمنية أُلغيت تماما من روزناماتنا، فأصبحت الوقفة الدينية المتكررة هي كل ما يميز حياتنا، مع أن المواقيت جزء مهم منها، خاصة في تقسيم الصلوات خلال اليوم الواحد.
نذهب في مسارنا الحياتي اليومي، إلى الارتباط بالخالق في خمسة أوقات خلال فترة اليقظة، بعدها ينام الزمن، وكأنه جزء غير محسوب من وجودنا، ولا شك أن ما حدث في أزمنة مضت، عشنا فيها تحت أنظمة ألغت مفهوم الزمن وحولته إلى مُكَون ديني محض، بين شهر الصيام، والأشهر الحرام، وشهر الحج، وغيرها من مناسبات دينية، لا ثبات فصلي لها، بحيث لا الربيع ربيعا، ولا الشتاء شتاء، لا الخريف خريفا، ولا الصيف صيفا… حتى رحلة الصيف والشتاء التي كانت تنظم سفر القوافل وزيارة البقاع المقدسة، لم تعد تطابق التقويم القمري القديم، فخضع العالم لتقويم أكثر دقة هو التقويم الميلادي.
خلط المواعيد، وجعل حركة الزمن مرتبطة بعقارب سياسية قديمة، هو بالضبط ما أدخلنا في متاهة لم نخرج منها إلى اليوم. لكننا بدون أن ندرك ذلك نعيش حسب توقيتين، يتقاطعان في مناسبات معينة، ويختلفان في كثير منها. يحضر الماضي في بصمتنا الأدبية، وقليلا ما يحضر الحاضر، ونادرا جدا ما يحضر المستقبل. فعل «كان» هو الفعل المسيطر على لغة السرد عندنا، وهذا ليس ذنب الكاتب، بقدر ما هو ذنب مجتمع بأكمله، يعيش في الماضي حتى في مدوناته.
نكتب الماضي لأننا ربما لا نستوعب الحاضر جيدا، نحتاج لمسافة زمنية تنضج فيها الأفكار في أدمغتنا قبل أن نعيد صياغتها، وهذا رأي أرى فيه جانبا مشرقا لو أننا لا نتمسك بتلابيب الماضي ونبقى عالقين فيه.
أعرف أن «آلة الزمن» لهربرت جورج ويلز من أجمل وأروع ما كتب لقراءة مستقبل البشرية بعد مئات الآلاف من السنين، الرواية صدرت في أواخر القرن التاسع عشر.
عام 2018 مضى في حال سبيله، وقد احتفل العالم لا بنهايته، بل بقدوم الضيف الزمني الجديد الذي سيحوك أحداثا جديدة. في الركن المظلم من العالم مضت تلك اللحظة مثل سابقاتها، حيث لا ترى الكائنات أضواء ولا ظلالا، لا شمسا ولا قمرا، لا ساعات ولا دقائق، ويستحيل أن تفكر في آلة الزمن التي غيرت إيقاع الأمم منذ ظهرت قبل أكثر من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد، أو لنقل لا قبله ولا بعده، حتى أن فكرة السفر عبر الزمن، فكرة خيالية محضة، يبحث فيها مجانين التكنولوجيا والرياضيات والفلك بعيدا عن العامة، فقد توقفت أسئلة الزمن عند بعضنا عند حدود براغماتية الحياة، وعند البعض الآخر عند ما هو أبسط ، حيث لا تتجاوز الأرقام تعداد الأيام والأشهر وسنوات العمر. سنة 1611 قدم شكسبير شخصيته الخارقة بروسبيرو في مسرحيته «العاصفة» التي تتحكم في خط الزمن، وكانت تلك فكرة مبكرة جدا، لطرح فكرة الزمن بتلك الطريقة، دعوة منه للتفكير مليا في كل أمر يحدث، من منطلق نصرة الخير على الشر، فقد يحدث أن ينتصر الشر بسبب الاستعجال أو التأخر في أخذ قرار ما، ولا شك أن العودة لأحداث المسرحية ولو بشكلها المختصر سيكشف للقارئ أن كل إهدار للوقت له ثمنه، تماما كما حدث لبروسبيرو الغارق في التسلية حتى استولى أخوه على الحكم، وطرده مع ابنته ميراندا فعاشا الأهوال لاثنتي عشرة سنة في جزيرة نائية لم يخرجا منها إلا حين استعاد الملك المخدوع زمام أموره، منكفئا في ركن للقراءة في كهفه على التعلم والبحث والتجربة لاستعادة قوته التي ضاعت منه.
لا أدري إن طرق الأدب العربي باب الزمن في هذه الطريقة نفسها، لكنني أعرف أن «آلة الزمن» لهربرت جورج ويلز من أجمل وأروع ما كتب لقراءة مستقبل البشرية بعد مئات الآلاف من السنين، الرواية صدرت في أواخر القرن التاسع عشر، ولمن لم يقرأها يمكن اقتناؤها كفيلم، لمعرفة الأسئلة الكبرى التي طرحها الكاتب في زمنه، لكنه حتما نبه لفكرة علمية حقيقية، وهي أننا نعيش على سلم زمني، حتى أنه بإمكاننا أن نرى الماضي متفاوتا في أنوار النجوم اللماعة ليلا، وقد توصل العلماء من هذا المنطلق لقياس سرعة الضوء، ومعرفة المسافات الضوئية بالكيلومتر بين الكواكب والنجوم. لا أدري هل يشغل هذا الموضوع كتابنا؟ لكنني منذ طفولتي الباكرة تمنيت السفر عبر الزمن، لاسترجاع بعض ما ضاع مني، لقد شعرت دوما أن أكبر لص وأشطرهم على الإطلاق هو الزمن وأن ما يأخذه لا يمكن استعادته أبدا، إلا إذا اخترعت آلة للسفر عبر الزمن. ولعل هذا ما جعلني دوما حذرة في اللحظات الفارقة في حياتي الخاصة، تحديدا ما أجدني مجبرة على الخضوع له كزمن مشترك، حيث تتقاطع الأزمنة، في مكان واحد، وحيث لا يمكن تخطي الماضي الذي يعيش فيه البعض.
في أوساطنا الأدبية ألمس جليا اللامبالاة القاتلة لحركة الزمن، الكاتب لا يجر قارئه لا للحاضر ولا للمستقبل، ولا حتى للانعتاق من الماضي الثقيل.
في أوساطنا الأدبية ألمس جليا اللامبالاة القاتلة لحركة الزمن، الكاتب لا يجر قارئه لا للحاضر ولا للمستقبل، ولا حتى للانعتاق من الماضي الثقيل. فيما يصعب حصر الأعمال الأجنبية التي تناولت الزمن كمادة فلسفية أثيرت حولها الأسئلة، إذ منذ مطلع القرن الواحد والعشرين، بلغ كُتاب «أدب الزمن» – إن صحت تسميته بذلك ـ رقما كبيرا، ومن خلال قراءة سريعة عنه سنقف على هول المسافات الزمنية بيننا وبينهم، نحن الذين لم نستوعب بعد كروية المكان الذي نعيش فيه، ولا شساعة الفلك الذي نسبح فيه رغم المرجعية القرآنية التي تؤكد ذلك. لنعد لتلك اللحظة الفارقة التي تفصل سنة عن سنة، تلك التي إن لم نعشها بملء عقولنا ومشاعرنا، فلن ندخل الإطار الزمني الجديد، إن لم ننهِ سنة مضت وتمسكنا بماض ثقيل فإننا سنشعر أننا شخنا ونحن لا نزال في الأربعين، وحده إدراك حجم زمننا الحاضر يبعث في أنفسنا روحا جديدة. قد يقول البعض هل نحن بحاجة لهذا الوهم؟ والجواب سيبقى متعلقا بنسبية الأشياء، فمهما طالت أعمارنا، سنقاس بما أنجزناه من أعمال، وأرقام قليلة تُنْتَقى من سلم العمر.
هل كانت سنة 2018 سنة جيدة علينا؟ إن كانت سيئة فأمامنا بداية للقيام بإصلاحات، وإن كانت جيدة فأمامنا مهمة الحفاظ على ما تحقق فيها من نجاحات، وفي كلتا الحالتين، تبقى اللحظة الأهم بالنسبة لنا هي لحظة الصفر التي ننطلق منها، وما يليها من خطوات نعيشها يوما بيوم..
سنة جديدة هي إضافة لعمر الصداقات الجميلة، كما قال فيكتور هوغو، وسنة جيدة دائما تعوضنا عن خسائر سنتين على قول فولتير. سنة حلوة لكم جميعا. ولا تتركوا اللص الشاطر يسرق اللحظات الجميلة من أعماركم.
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين