اللعنة عليهم

اللعنة عمل لغوي كغيره من الأعمال اللغوية من مدح وذمّ واستلطاف وغيرها. فقد لا يبقى لك من وسيلة تقتصّ بها لنفسك من الآخرين الذين أضروا بك غير أن تقول: اللعنة عليهم! ستقولها مرّة أو مرّتين، وأحيانا أكثر، وستجد شيئا من الكرب قد انفرج. اللعنة عليهم كلام له تاريخ وله جغرافيا وله سياسة في القول، هو بحاله حكاية قديمة متجدّدة.
أقدم ما وصلنا من استعمال لعبارة اللعن ومشتقاتها أنّها كانت تستخدم للملوك.. كانت العرب تقول للملوك، أبيت اللّعن فقد جاء في اللسان: أبَيْتَ اللّعنَ كلمة كانت العرب تحيّي بها ملوكها في الجاهليّة معناه أبيت أيّها الملك أن تأتي ما تلعن عليه. واللعن الإبعاد والطرد من الخير»، (لسان العرب، مادّة ل. ع. ن). كلمة ملوك العرب واسعة جدّا من جهة إطلاقيتها، لكنّها محدودة بالمناطق التي كانت تسكنها العرب قديما، وكان فيها ملوك وربّما كان أشهرهم ملوك الحيرة، لكن لا بدّ ألاّ نفهم لفظ الملوك بدلالتها السياسيّة التي لها في العادة، وهي أن تتوفّر المملكة والملك والتاج والعرش وغيرها من الأسباب، لأنّ الملك يمكن أن يكون سيّد قبيلته، وحتى عشيرته هذا أصل العبارة على ما نجده في كثير من أخبار العرب القديمة.
والمهمّ أنّ «أبيت اللعن» تقال في سياق التحيّة المتداولة بين الناس، ويبدو أنّها تحيّة من نوع «سلاما» أو «سلمت ممّا يشينك»، لكن من يسلم من لعن الناس يعني أنّه يقبل لعنهم وينجو من ذلك، ومن يسلم من لعن الناس يعني أيضا أنّه لم يرتكب شيئا لأجله يلعنونه، أي يضمرون له على سبيل التمنّي الابتعاد من الخير الذي فيه، لا يبتعد الملوك عمّا هم فيه من خير إلا بانقلاب الأحوال عليهم، ولن تنقلب إلا بالموت. أبيت اللّعنَ تعني في ظاهر القول أنّ للملك من الحكمة ما يجعله لا يصدر الأوامر ولا الأحكام ولا القرارات، إلاّ بعد أن ينظر فيها، فلا يظلم أحدا ظلما يجعله يلعنه. لكن من قال إنّ الظالم الذي يصدر في شأنه الحكم العادل لن يلعن لشعور بزوال النعمة هذا الافتراض يبدو لاغيا في عقليّة من يقرأ الأشياء بميزان العدل والقسطاس. هذا الميزان دائما ما تجد أغلب الناس في كفّته فكل الناس تتحدّث عن عدل بمعنى نصرة المظلوم، وإحقاق الحقّ لكن لا يفكّر الناس في رأي من ظلم هل يعتبر كفّ أصحاب الأمر ظلمه عدلا وقسطاسا. أنا لا أعتقد فالحقّ والعدل مفهوم ظلّ يوجد في ذهن المظلومين الذي يطلبون الإنصاف، وليس في ذهن من ظلموا، فهؤلاء يتداولون الحقّ والعدل والإنصاف بمفاهيمهم أيضا.
فإذن أبيت اللعن تعني أبيت أن تلعن ممّن ظُلِمُوا لا ممّن ظَلمُوا. هذا يعني أنّ من يقولها للملوك هم قوم من المنتصرين للضعفاء، أو قل هم الضعفاء أنفسهم وهم الغالبيّة والسواد الأعظم. لكن يمكن أن يستعمل من هم في الحقيقة مصطفون في صفّ من لا يعنيهم ظلم الضعفاء أيضا، ويمكن أن يستعملها معهم من كانوا مصطفين في صفّ من يعدّهم المحرومون والمظلومون ظالمين. يستعملها المحايدون لأنّها شكل في التحيّة لا غير، فهي ستكون في معنى سلاما عليكم لمن يقولها، وهو لا ينوي معنى السلام الحقيقي الذي هو نقيض الحرب. كثير من عبارات التحيّة فقدت معناها الأصلي الذي قيلت لأجله أوّل مرّة، فاليوم نقول أيضا أهلا وسهلا، ولا ننوي ما نواه الأوائل حين أضمروا حللت أهلا ونزلت سهلا، قلة ممن يقولون ذلك اليوم واعون بالحكاية، بل هي لا تعنيهم أصلا، ولم ستعنيهم وهي صارت من عبارات الترحيب من نوع مرحبا، لكنّها أطول فقط وتتيح فرصة للإكثار من كلام الترحيب.

اللعنة عليه أقلّ خطرا وأكثر استعمالا من اللعنه عليك، باستعمال كاف المخاطبة هي أقوى لأنّها تضع المتحدّث في موقف مجابهة ومواجهة قد تصل إلى ردّ الفعل العنيف، أو الذي يسلب الحياة إن قيلت لمن يمكن من البشر أن يسلب الحياة

لكنّ المصطفين في صفّ من يمكن أن يَظلم حين يقول هذا الكلام يقوله من أبواب كثيرة: أوّلها الاصطفاف الكاذب في صفّ المظلومين وثانيها الحياد الذي ذكرناه سابقا وثالثها وهو الأخطر المصلحة الخاصة التي تعني أبيت أن تلعنَ منّا، نحن عترتك المجتبين. طبعا لا أحد يمكن أن يذهب هذه المذاهب المختلفة في التأويل، لأنّ الاستعمال الذي وصلنا حنّط رؤية واحدة لأبيت اللعن، ونفى البقيّة وهذا التحنيط وجّه الاستعمال وجهة وحيدة هي وجهة التحيّة المحايدة.
اللعنة اكتسبت في النص القرآني معنى عقابيّا، ارتبط بالشيطان وبالأمم المفسدة الكافرة. فالشيطان هو اللعين أو الملعون الأكبر الذي يصدر اللعن الأكبر في شأنه في بلاد المسلمين، من وقت دخول الإسلام إليها، ومعرفة وسوسة الشياطين إلى اليوم فالشيطان لعنه الله لأنّه طرده من رحمته، ومن خيره ونعمائه، لكنّ الشيطان يلعن سرّا وعلانية لا لهذا فقط، بل لكي يطــرد من حيّز نوايا المؤمنين التي يمكن أن تزلّ وتنحرف وتدفعهــــم إلى شرّ الأعمال التي تغضب الله وتوجب عقابه. لهذا جاء في المعجم: واللعن الإبعاد والطرد من الخير، وقيل الطرد والإبعاد من الله ومن الخلق السبُّ والدُّعاء ( ل.ع. 13/387).
إن صدر اللعن من البشر أفاد السبّ وأفاد الدّعاء. السبّ والدّعاء عملان لغويّان قلّما يلتقيان، لأنّ السبّ هو قذف بقبيح الكلام يُتّجه به إلى شخص في مقام أدنى (أو في مقام أعلى يسفّ به من يسبّ). بينما الدّعاء هو كلام مهذّب (حتى في سياق الدّعاء عليه) يتّجه به شخص إلى مقام من تنزه عن باقي المقامات، وعلا على باقي المنازل. يبدو لعن الشيطان في سياق السبّ مندوبا لا عقاب فيه فهو كلام البشر، أحفاد آدم لمن كان سببا في إخراجهم من المقامات العلى، ولمن أقسم أن يغويهم ويبعدهم عن طريق الحقّ ويقربهم من الزلل، حتى إذا ما عادوا دخلوا الجحيم لا الجنان. كأنّ لعن الشيطان في معنى سبّه يعني موقفا ذاتيا فيه سعي إلى الآخرة من طريق الجنة، ولكن بإزالة عقبات الشيطان منها. اللعنة سبّ له وللنفس الأمّارة بالسوء التي ستتبعه. والدّعاء يأتي في هذا السياق لدعم القوّة الإنسانية البسيطة، التي يمكن أن تغريها حيل الشيطان وتزيّن له الابتعاد عن طريق يعود به مستحقّا إلى الجنان.
لكن اللعنة عليه حين تقال لشخص- وهذا شكل من أشكال تداولها اليومي- لا تعني ما تعنيه من طرد للخير عنه فقط، هي أعظم من ذلك لأنّها تجعل المنويّ باللعن أو الملعون في مرتبة شيطانيّة؛ هي شيطنة العدوّ الآنيّ وكأنّه عدوّ لجنس البشر.
اللعنة عليه يمكن أن تكون في معنى أخزاه الله مثلما أخزى الشيطان، أو أكثر لكنّها قد تعني في مواضع أخرى شيئا غامضا لا علاقة له بالعقاب، هي كلام يقال فيفرّج بقطع النظر عمّا يدلّ عليه، هو علامة تفريج أسقط معناها الأصلي الذي فيها وصار علامة على شيء لا صلة له بدلالته القديمة تلك الدلالة، لم تزل وإنّما ذبلت وتراءت عن العيون وظلت وهي دلالة تعمل عمل الدال الجديد.
اللعنة عليه أقلّ خطرا وأكثر استعمالا من اللعنه عليك، باستعمال كاف المخاطبة هي أقوى لأنّها تضع المتحدّث في موقف مجابهة ومواجهة قد تصل إلى ردّ الفعل العنيف، أو الذي يسلب الحياة إن قيلت لمن يمكن من البشر أن يسلب الحياة.
اللعنة بدون حرف جرّ هي صورة مخفّفة من غضب غاضب لاعن لا يعطي كلّ أسرار الملعون. اللعنة التي فقدت حرف جرّها وضميرها هي صوت مكتوم يشعر بالمرارة والظلم، ولكنّه يخشى أن يدفع الثمن أكثر. اللعنة عليك: عبارة شيطانيّة خلقت للشيطان، فإن استعملت خارج سياقه ملأت ذهن المخاطب بها شياطين ولا أحد يعلم كيف تردّ عقول شيطانية على من رجمها حين تستطيع أن تردّ.

٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول آصال أبسال:

    /اللعنة عمل لغوي كغيره من الأعمال اللغوية من مدح وذمّ واستلطاف وغيرها/.. !!
    حتى في السطر الأول من مقاله، تبدأ أكبر المغالطات في النظرية المعنية التي بلورها كل من أوستن وسيرل،. وشتان شتان بين “العمل الكلامي” Speech Act وبين “العمل اللغوي” Linguistic Act

    1. يقول وداد الصفدي - فلسطين:

      تحية شكر وتقدير إلى الأخت الأستاذة آصال أبسال على ملاحظاتها الثاقبة كما عهدناها ،
      أذكر ذلك جيدا من أيام السنة الأولى عندما كان المرحوم الدكتور زين الدين بن قطب يشرح لنا نظرية الأفعال الكلامية لأول مرة بأسلوب غاية في السلاسة والمنطق والبعيد عن أي التباس يشوش علينا نحن المبتدئات والمبتدئين لأنه رحمه الله كان حريصا جدا على عدم الخلط في المفاهيم من دافع الواجب الأخلاقي والضمير الإنساني الحق !!؟؟

  2. يقول الصفاقسي / تونس:

    توفيق قريرة .. أستاذ اللسانيات… في الجامعة التونسية… نفس الرؤية والاهتمام ونفس الأسلوب والتعبير ونفس المنطق
    يخلق من الشبه أربعين

    1. يقول الصفاقسي / تونس:

      هذا التعليق الهزلي ليس لي هو من إبداع السيدة آصال التي تتحفنا بفن تصيد الكلام

    2. يقول مراقب عن كثب:

      آخر طرفة صفاقسية…
      معلقٌ هزليٌّ يغادر السربَ عنوةً ويتحدثُ إلى نفسهِ
      ويظنُّ أنها سيدةُ الأصولِ مدىً وآمادا :
      تأبى الرماحُ إذا اجتمعنَ تفرُّقا / وإذا افترقنَ تكسَّرت آحادا

  3. يقول ابو الوليد:

    قصة تحكى و هي من الارهاصات و لكن حتى الارهاصات لا تخلوا من اللعنة.تقول القصة:مرة الشاعر المتنبي رأى ولدا فسأله ما اسمك أيها الغلام؟فقال الولد اسمي زيتونة.فقال المتنبي اسموك زيتونا و انت لا خير فيك و لا نورا ،و يا ليتهم اسموك زعرورا، فأجابه الولد و قال ايا لعنة ربي صبي على المتنبي اذا كان المتنبي رسولي فالقرد ربي.باعتبار أن المتنبي أدعى النبوة.

  4. يقول قارئ:

    (فقد لا يبقى لك من وسيلة تقتصّ بها لنفسك من الآخرين الذين أضروا بك غير أن تقول: اللعنة عليهم!) ؟؟
    إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب !!

  5. يقول مدقق لغوي محدث:

    *** لكن لا بدّ ألاّ نفهم
    إما
    *** يجب علينا ألا نفهم
    أو
    *** يجب ألا نفهم
    أو
    *** علينا ألا نفهم
    (“لا بد” المنفية أصلا لا يأتي بعدها نفي آخر عادة، وإلا كان التركيب دخيلا من لغة استعمارية)

  6. يقول مدقق لغوي محدث:

    *** فالحقّ والعدل مفهوم ظلّ يوجد في ذهن المظلومين
    *** فالحقّ والعدل مفهومان ظلّا في ذهن المظلومين
    (بدون “يوجد” لأن “ظلّ” يدل على الوجود أصلا، كما في “بقي”)

إشترك في قائمتنا البريدية