ما أكثر ما نسمع قولهم في وسائل الإعلام: “هذه لغة خشبيّة”، والمجيب الذي يتكلّم كثيرا في العادة، يلزم الصمت أو يلوي لسانه، بدون أن يكفّ عن التخمين أو يقول شيئا ذا معنى؛ ولكنّه يحاول أن يكون ذلق اللسان؛ ويقول بدون أن يقول شيئا ذا بال يفيد أو يوضّح معلومة أو يغنيها. وكأنّه على رأي المثل الفرنسي:
Qui langue a, à Rome va
وترجمته “من يحسن الكلام، إلى كلّ مكان يذهبُ”. وقد لا نستغرب عادة مثل هذه العبارة “خشبيّة” ونحن نديرها على ألسنتنا بيسر وسهولة؛ ولا نسأل ما علاقة لغة ما بالخشب؛ أو بِمَ نسوّغ مثل هذا النعت أو هذا التعبير الكنائي أو الاستعاري الوافد على العربيّة مثلما هو وافد على لغات غيرها، كما أشير لاحقا. أمّا في العربيّة فالخشب جمع خشبة، وهو ما غلظ من العيدان. وقال بعض الصحابة عن سلمان الفارسي: “كان لا يكاد يُفْقَه كلامه مِن شدَّة عُجْمته، وكان يسِمي الخَشَب الخُشْبان”. وتقول العرب للرجل إذا صارَ صُلْبا، خشنا في دينه ولبسه ومطعمه، وجمِيع أَحواله: “اخشوشب”. فلعلّ في هذا ما يسوّغ الترجمة الحرفيّة “لغة خشبيّة” لما تتّسم به لغة الكذب هذه “الباردة” أو “النيّئة”، في عالم السياسة، من غلظة أو خشونة؛ وهي ليست بالعاديّة ولا بالمحايدة. وفي تونس نستخدم في وصفها كلمة “بلّوط” وهي تعني الكذب. والحقّ لست متأكّدا ما إذا كان هذا التعبير الكنائي التونسي مشتقّا من البلّوط وهو من شجر الأحراج الكبير، غليظ الساق، متين الخشب؛ أو هو من مأثورنا الصوفي “عيساويّة البلّوط”، أو ممّا يروى عن المتصوّفة من كرامات كزعمهم أنّ ابراهيم بن أدهم كان يجتنِي الرطَب مِنْ شجر الْبلوطِ. وربّما هو حصيلة هذا كلّه، ومثل هذه اللغة ملتبسة بطبعها، فهي إخفاء ومواراة، أو هي إجراء تداوليّ (براغماتي) حتّى عندما يوهم صاحبها بأنّها إجراء للبعيد من المعاني؛ خاصّة أنّنا نكاد لا نظفر منها بمعنى يؤبه له.
أمّا حديثا فقد تقلّبت هذه اللغة “الخشبيّة” في طورين لا غير. كانت الروسيّة طورها أو مهدها الأوّل “لغة البلّوط” (كما هو عندنا في المحكيّة التونسيّة لمصادفة لغويّة أو كنائيّة لا غير)، وقد استخدمها الروس قبل ثورة 1917، في وصف البيروقراطيّة القيصريّة الخانقة، والسخرية منها، ثمّ في الخطاب الإيديولوجي للاتّحاد السوفييتي. ثمّ وفدت على الفرنسيّة منذ حوالي نصف قرن، وتحديدا في السبعينات، وهذا طورها الثاني.
وهي تعني إجمالا كلّ خطاب شفويّ أو مكتوب مصطنع سطحيّ، يؤدّيه صاحبه بعبارات لا تتغيّر كما تؤدّى التعازيم والرقى؛ ومداره على رسالة مقطوعة الصلة بالواقع، أو هي لا تحمل معلومة جديدة، أو هي ملفّقة مدبّرة مسبّقا. بل هو مناورة لغويّة أو تلاعب لفظيّ يتعذّر تحليله أو تأويله استئناسا بمصطلحات الدلالة حيث يمكن أن يقوم دالاّن لمدلول واحد. وهي بامتياز لغة السياسيّين والفنيّين (التكنوقراط) ورؤساء الشركات الكبرى؛ وهم يستظهرونها بغاية “الحياد”، وبالعبارات المحفوظة ذاتها. ويمكن اختزالها في تمويه المعلومة بدون الإفصاح عنها بالدقّة اللازمة، وتلافي الإجابة عن الأسئلة المحرجة المربكة، والحرص على صرف الانتباه عن بيّنة أو حجّة أو مستندات مثبتة، لكن بدون صدْم المحاوِر أو المخاطِب؛ والتستّر على حقيقة مستكرهة مع التظاهر في الآن نفسه بوصفها، وإخفاء مقاصد وأهداف مخجلة أو غير لائقة، والإيهام بالموافقة على رأي؛ وإظهار الانطباع بالاهتمام بمشاغل الأغلبيّة من الناس، والحرص على الاستجابة إلى مطالبهم بعبارات فضفاضة. والهدف من هذا كلّه فرض إيديولوجيا النظام أو رؤيته للعالم.
ولهذه اللغة الخشبيّة وهي تدرّس في المدارس العليا للإدارة، وتحرص الأحزاب السياسيّة الفاعلة، على تعليمها لمريديها وأنصارها، سمات أسلوبيّة مشتركة تكاد لا تخفى. ونشير منها إلى ظاهرة تعقيد الأسلوب، بفيض أو سيل من الكلمات غير المفيدة هي حشو أشبه بالهذيان، هدفها إتعاب المستمع أو جعله يخفق إزاء أقلّ عقبة. وهي من ثمّة مصادرة للكلام وغياب تامّ أو يكاد لأيّ تبادل للرأي، ورؤية مزدوجة للواقع تلوح بوجهين؛ حتّى ليمكن نعتها بأنّها “مانويّة” (نسبة إلى ماني الفارسي القائل بمذهب الصراع الأبدي بين النور والظلام)؛ ولكن ببرودة الرياضيات، حتّى لكأنّها ترقيم مزدوج أو مجرّد عدد مؤلّف من وحدتين. فلا غرابة أن تعوزها الصفات الفرديّة المميّزة، ويطّرد فيها استعمال الكليشيهات أو الرواسم أو العبارات المقولبة المكرّرة على نحو ثابت لا يتغيّر، بأبّهة لغويّة مبتذلة مثل قول الخشبي لمحاورِه، لـ”تعليل” حدث ما: “أنت تعرف أنّ الظروف صعبة”، وإذ يُطلب منه تفصيل هذه الظروف؛ يعود إلى الحشو واللغو بعبارات مسهبة لا طائل تحتها، كأنْ يقول: “طبعا هي صعبة، ولكن لدينا مشاريع للمستقبل”، أو بعبارات حوشيّة مخالفة للقواعد والأعراف، أو هي قليلة الدوران على ألسنة الناس. والهدف من ذلك تغيير موضوع الكلام وصرف المستمع عن السؤال، أو تهدئة وضع طارئ. وأكثر ما يكون ذلك بصيغة المبني للمجهول الفضفاضة والعبارة المصطنعة الخارجة عن السياق، حتّى لا يتمّ تحديد المسؤوليّة أو معرفة المسؤول؛ وإنّما الاحتيال على المستمع، كأن يزيّن له أمرا، ويحسّنه ويزخرفه.
ولعلّ هذا ما يجعلها شبيهة باللغة الدبلوماسيّة التي توسم بها الفرنسيّة عادة؛ وهي التي عوّضت اللاتينيّة منذ القرن الثامن عشر، في تحرير الاتفاقيّات الدوليّة، لاعتبارات كانت تتعلّق بإشعاع فرنسا الثقافي، وليس بهيمنتها؛ ممّا يقتضي بسطة تاريخيّة ليس هنا مجالها. أو ربّما لخواصّ لغويّة في الفرنسيّة، حتى أنّ الديبلوماسي البريطاني المعروف هارولد نيكلسون أشاد عام 1939 بـ”دقّتها الرياضيّة”. والأغرب أنّها كانت في القرن التاسع عشر اللغة المستعملة في دوائر الدبلوماسيّين العثمانيّين. ثمّ بدأ أفولها عام 1919 في مؤتمر باريس، حيث زاحمتها الإنكليزيّة وجاذبتها مكانتها.
اللغة الدبلوماسيّة صورة من اللغة الخشبيّة، والدبلوماسيّة هي في جانبها الأبرز فنّ الظهور المستند إلى سلطة الكلمة المشفّرة المتصنّعة، تلك التي تحتفظ بسرّها من أجل خدمة الأقوياء المتنفّذين. ويرى البعض من اللسانيّين مثل كونستانز فيلار أنّ شفرة الخطاب الدبلوماسي تدور على أربعة محاور: الرياء محلّ الصدق أو سلامة الطويّة، والكذب محلّ صدق الوعد أو كلمة الشرف، والزيف محلّ الحقيقة، والإخفاء محلّ الشفافيّة.
وفي هذا ما يسوّغ القول بأنّها لغة تكاد تجري على وتيرة واحدة لا تحرفها. فهي تقترب من “المشترك” اللغويّ، وتتدانى من البعيد اللغوي أيضا، وتلحق هذا بذاك؛ وهي تجترّه دونما انقطاع، وتضعه في مواضع متنوّعة جدّا. ولكنّها “تطعّمه” في الآن نفسه كما سلف، بالغريب أو الروسم [الكليشيه] المستعار من العادي وما تجري به الألسنة. بل هي تصطنع رواسمها كلّما تعلّق الأمر بإعادة استعمال صيغ بعينها أو بإطلاقها “رواسم” في فضاء الذاكرة المرئيّة أو السمعيّة. لنقل إنّها في مجتمعاتنا، خطاب لا يستثني أكثره الألفاظ “المبتذلة” في صناعة الإشهار، بيْد أنّه في اللغة الخشبيّة إشهار سياسي يحاول أن يمالق المستمع، وأن يتسلّل إلى عقله؛ ليبذر فيه رؤية النظام للواقع أو طريقته في التفكير.
وهذا ما يجعلنا نرى في اللغة الدبلوماسيّة “الخشبيّة” ومتعلّقاتها عند الدبلوماسيّين بعدين اثنين: أوّلهما مناقضة لغة واضحة تقتضيها المواضعات، أو ما هو قريب من المعاني؛ من باب الحاجة إلى الازدواجيّة والالتباس. فهي إذن للاستعمال الداخلي الخاصّ، ولكنّ تجربة الدبلوماسي المتمرّس، تجعله لا يفْرِط فيها ولا يفرّط؛ فلا يشطّ ولا يغالي في استعمالها، وإنّما هو يؤدّيها وكأنّه يقيسها بالفرجار. وفي هذه الحال فإنّ ظلال معنى الأقوال المصرّح بها، المرتبطة بالصورة التقليديّة للدبلوماسيّة، تجعل الجمهور لا يقدّر هذه اللغة البعيدة عن توصيل المعلومة وتحقيق الغرض المطلوب بشفافيّة، وبتخاطب أو تواصل حقيقي. وثاني البعدين أنّ لهذه اللغة بعدا سياسيّا، فهي تتوجّه إلى المواطن وإلى وسائل الإعلام. وفي الديمقراطيّات، فإنّ الكلّ يرغب في النفاذ إلى المعنى؛ الأمر الذي يضفي على هذه اللغة طابعا خارجيّا. ولذلك نحتاج في مجتمعاتنا إلى الصحافيّين وذوي الاختصاص لفكّ رموز هذه اللغة الديبلوماسيّة وشفرتها.
لا أجد في وصف هذه اللغة الخشبيّة أو “الدبلوماسيّة” أبلغ من العبارة التي وضعها ستاندال على لسان أحد اليسوعيّين: “لقد مُنح الإنسان الكلام، من أجل إخفاء خواطره”. وأطرف من هذا كلّه ما رواه لي أحد طلبتي عن تجربته في التعليم الثانوي، من أنّه يقف في مواضيع الإنشاء؛ على أخطاء طريفة مضحكة لا تخطر على البال. وذكر لي أنّه قرأ في تحرير تلميذ “الثاء” في كلمة “ثلاث” وقد كتبتْ في شكل تاء مربوطة ولكن بثلاث نقط، وإذ سأله مستغربا أجاب: “الثاء المربوطة”.
تلك هي اللغة الخشبيّة حرف زائد في الأبجديّة، لغة لا تقول ولا تسمّي، لغة من يغربل الماء.
* كاتب تونسي
ماذا عن لغة الرصد الجوي الذي لا يُقرّ بدرجة الحرارة في الظل تفوق 70 درجة مائوية ؟