لا أحد يختلف في كون اللغة أداة للتواصل والتعبير، وهي في الأدب تلك المادة التي يُبنى الخطاب الأدبي من خلالها، وتختلف من نمط كتابي إلى آخر، فلغة الشعر تقوم على التلميح بدل التصريح، وتقوم على التخييل بدل التقرير، كما تقوم على البيان والبديع بدل الصلابة والحدة العلمية. وبتعبير آخر، فاللغة الشعرية هي «ذلك الوعاء الذي يحمل مشاعر الشاعر وأحاسيسه، وينسجم اللفظ مع المعنى فيها.. وهي المادة التي يبني الشاعر منها أدبه».
ومن أبرز سماتها السهولة والليونة أو التكلف والجزالة، أو الخطاب والغموض، أو استلهام المعاجم (الحقول الدلالية) المختلفة. ويعتبر جون كوهن، أن اللغة الشعرية واقعةً كغيرها من الوقائع، وقابلة للملاحظة علميا والتحديد الكمي، ما يــؤدي إلى صدم الإحساس العام، وتقوم هذه الأخيرة (اللغة الشعرية) على خاصــــية الشــــعرية من جـــهة، ثم على المستويين الأساسيين من جهة أخرى، وهما المستوى الصوتي (النظــــم) والمستوى الدلالي (الإسناد والتحديد والوصل)، إلى جانب ترتيب الكلمات والوظيفة الشعرية .
وفيما يتعلق بالتيار الشعري الذي يهمنا، وهو التيار الرومانسي، فإن الشعراء تعاملوا مع اللغة تعاملا خاصّاً، باعتبارها (اللغة) تعبيراً وكشفاً، على اعتبار أنها تتجدد وتكتسب معنى فريدا في كل قصيدة، ولذلك جاءت اللغة الشعرية الرومانسية مكتسبة طابع الرموز والاستعارات والعلامات، بدل اللغة العادية التي تعبر على ما تواضع عليه الناس، وعليه، اتخذت صيغتين تعبيريتين، هما: صيغة الرمز، وصيغة الأسطورة. وتأتي تجربة الشاعر عبد الكريم الطبال في هذا الإطار/ السياق الثقافي والأدبي، فكانت لغته ذات طابع خاص، مختلف عن لغة التجارب الشعرية الأخرى.
وفي كتابه القيم «تطور الشعر العربي الحديث والمعاصر في المغرب ـ من 1830 إلى 1990»، يعرض عباس الجراري (ويناقش) المقومات الفنية الأساسية للشعر العربي في المغرب، وهي: اللغة ـ الإيقاع ـ الصورة، حيث بيّن أصول كل مفهوم، وقدّم تصوره الشخصي له، ثم عمل على تحليل بعض النماذج الشعرية ومقارنتها ببعضها حتى يتحقق من مدى نجاعة المفاهيم التي طرحها. ويهمنا في هذا المقام «مقوِّم اللغة الشعرية»؛ باعتبارها أداة مهمة لبناء الخطاب الشعري، أو رسم الصّرح الخيالي، فكما يرسم الرسام بالألوان، ويبدع في استعمالها، فإن الشاعر يرسم بالكلمات (اللغة)، ويبدع في استعمالها، ولذلك يرى عباس الجراري أنها الآلة التي تمكن الشاعر من الوصول إلى ذات المتلقي وإثارته، ولا تقتصر على الرصيد المعجمي فقط، بل تتجاوز ذلك لتصب في قوالب ملائمة للدلالات المقصودة، حتى يتمكن الشاعر من الوصول إلى العمل الفني الإبداعي المتميز والمتفرد.
تتشكل لغة شعر الطبال من كل ما يجعلها ذات بعد تخييلي وفوق الواقع، بدءًا بالبيان العربي ووصولاً إلى الانزياحات اللغوية.
ومن المعروف أن التجارب الشعرية تختلف من شاعر إلى آخر، ولذلك فاللغة الشعرية تختلف من شاعر إلى آخر؛ فبواسطتها تتجلى الانفعالات والرؤى الشعرية وثقافة الشاعر التي بُنيت بالقراءة والتجارب. ومن منظور آخر، فإن اللغة الشعرية هي هوية الإبداع الشعري والعلامة الدالة على انتمائه الأدبي، لذلك يجتهد الشاعر في اختيار الكلمات بدقة وعناية فائقة. ولعل اللغة في الخطاب الشعري تتميز بخصائصها الفنية التي تُثير القارئ/ المتلقي بعمق مدلولاتها وتنظيم سياق ألفاظها. وهي (اللغة الشعرية) لغة الإيحاء والترميز، عكس لغة العلوم التي تعتمد على التحديد والتوضيح والتدقيق أحياناً.. هكذا يقدم – لنا- عباس الجراري تصوره لأهم المقومات الفنية للشعر.
وإذا قلنا إن أبرز خصائص فن الشعر هي اللغة التعبيرية المتعالية عن لغة الحديث اليومي، فإن اللغة في التجربة الشعرية للمغربي عبد الكريم الطبال تتميز بتفردها التعبيري، الذي يكتسب طابع الرومانسية، بدءًا بالهروب من المجتمع البشري واللجوء إلى الطبيعة، مرورا من اللغة التقليدية إلى لغة الانزياحات والدلالات الباطنية للغة. ولعل قصيدته «المدينة البيضاء» خير نموذج لهذا التقابل بين التجربة الرومانسية ولغتها التعبيرية العليا؛ إذ يقول في مطلعها: «أخيالٌ يطوف في أفق الفكر أم دنيا حسيّةُ الألوانِ».. وتدور معاني القصيدة حول مكانٍ مِثالي كثير الجمال مبنى ومعنى، ليس فيه نصَب ولا حزن ولا يأس، بل فيه الهدوء والسعادة والسرور والأمل، فهو العالم الآخر حيث كل شيء جميل، شبيه بالمدينة الفاضلة التي بناها أفلاطون في كتاب «الجمهورية»، ويتبين ذلك في قول الشاعر: «أو هو العالم الذي كان يهواه فؤاد أفلاطون، منذ زمان». والملاحظ أن الحقول الدلالية التي تؤسس المعجم الشعري للقصيدة، ومنها لغة الشعر في تجربة الطبال الإبداعية، تدور حول الجمال والبهاء والسعادة المطلقة، وتدل عليها كلمات من مثل: الأحلام ـ الإعجاب ـ طيف المنى ـ المغاني ـ اللجين ـ بيضاء ـ الصفاء ـ عالم أبيض إلخ؛ وهي كلمات وتعابير رومانسية تدل على الطبيعة والتفلسف في الحياة والإغراق في الخيال. ومن جانب آخر، فإن القصيدة لا تخلو من لمسة بيانية، يبني بها الشاعر صرحه الخيالي، وفيها نجد الكثير من التشبيهات والاستعارات والمجازات والكنايات، الشيء الذي يبين مدى اختلاف اللغة الشعرية عند الطبال عن لغات النصوص الأخرى لشعراء التيار السلفي (مدرسة بعث وإحياء النموذج القديم)، ومن أمثلة التشبيه نجد قول الشاعر: «كقلوب الأطفال في فتنة العمر»، ومن أمثلة الاستعارات قوله: «فوق بحر من اللجين صموت»؛ وهنا استعارة مكنية، ومن أمثلة مجازات قول الطبال: «ينتزعن الإعجاب من قلبي الشاعر»، وأما أمثلة الكنايات فقوله: «يرتدي جبة من القطن»؛ وهي كناية عن الثلج. وكل هذه العناصر تبين أن اللغة الشعرية عند عبد الكريم الطبال تتميز بالانزياحات اللغوية الـمُخالفة للتعبير اليومي العادي القائم على التقرير والتوضيح.
وتأسيساً على ما سبق، نصل إلى الخلاصات التالية:
– يعتني الشاعر بالجانب اللغوي باعتباره أهم عنصر لبناء صرحه التخييلي، وكذا التأثير في المتلقي.
– تتميز لغة الشاعر عبد الكريم الطبال باعتبارها لغة رومانسية مختلفة عن لغة الاتجاهات الأدبية الأخرى.
– تتشكل لغة شعر الطبال من كل ما يجعلها ذات بعد تخييلي وفوق الواقع، بدءًا بالبيان العربي ووصولاً إلى الانزياحات اللغوية.
– تتوافق البنية التركيبية للغة الشعرية عند الطبال، مع الدلالات التعبيرية في القصيدة.
٭ باحث مغربي
شكرا للأستاذ سلمان على قراءته الأدبية لموضوع جيد …وكذلك على اختيارك للشاعر عبد الكريم الطبال ..موضوع يستحق النشر والقراءة