مثل هذه الأشياء لا يمكن أن تقع سوى في المغرب. وإذا كنت في المغرب فلا تستغرب! على طاولة برنامج تلفزيوني يلتقي رجل فكر من طراز رفيع وجهاً لوجه مع رجل مال وأعمال وإعلانات وعلاقات عامة، لمناقشة قضية في غاية التعقيد تتعلق باللغة العربية، وذلك على هامش الدعوة التي أطلقها الشخص الثاني إلى اعتماد العامّية المغربية في التعليم، ولاسيما بالنسبة لتلاميذ المراحل الدراسية الأولى.
وإذا كان مفهوما وجود مفكر من طينة الدكتور عبد الله العروي، فإن ما ليس مفهوما هو أن يُدلي رجل بعيد عن الميدان بدلوه في الموضوع، علماً أنه إذا كان يُتقن لغة الأرقام والحساب، فإن ما بينه وبين علم اللغة بعيد بُعد السماء عن الأرض. وما ليس مفهوما، أيضا، غياب أهل الاختصاص، عن تلك الطاولة التلفزيونية؛ ونعني بهم فقهاء اللغة (بالمعنى القديم) واللسانيين (بالمعنى الحديث).
كانت بحق، إذنْ، فرجة مسلّية تلك التي خلقتها القناة الثانية المغربية ـ الأسبوع الماضي ـ حينما استضافت الرجليْن من أجل ‘مناظرة’ حول ما أطلق عليه البعض الدعوة إلى ‘التلهيج’ (نسبة إلى اللهجات). وإذا كان عبد الله العروي قد صال وجال، فإن ‘خصمه’ بدا مضطربا وهو يبحث عن العبارات التي قد تسعفه في الدارجة المغربية، وهي الدارجة التي ظهر أنه هو نفسه لا يتقنها بالتمام والكمال، كما لا يتقنها أنجاله الذين رضعوا اللغة الفرنسية وهم صغار، وتماهوا معها وهم كبار.
كنا سنلتمس العذر للمعني بالأمر لو أنه رجع إلى لغة ‘الملحون’ (شعر شعبي مُغنى)، أو استعمل تعبيرات وصيغاً مستقاة من قصائد كبار الزجالين المغاربة، أمثال أحمد الطيب العلج أو فتح الله لمغاري أو حسن المفتي أو غيرهم، ولكنه كان يتحدث بدارجة مبتذلة لا ترقى إلى أن تكون لغة كتابة وبلاغة وعلم وتعلم. والسؤال الجوهري الذي أثاره العروي وغيره ممن تحدثوا في الموضوع: لنفترض ـ جدلاً ـ أننا قبلنا تعليم أبنائنا بالدارجة المغربية، فأية دارجة سنعتمد؟ علماً بأن أهل المغرب يتحدثون بلهجات متعددة، وكل واحدة منها تستعمل مفردات لا توجد في غيرها، وقد تكون كلمة تستعمل في الدار البيضاء مثار سخرية واستهجان (بل وحتى مصدر إحراج) حين ينطق بها في شمال البلاد مثلا، والعكس صحيح.
هناك إذاعات خاصة في المغرب اختارت خوض تجربة تقديم النشرات الإخبارية بالدارجة المغربية، فكانت النتيجة مهزلة بجميع المقاييس، إذ أن المحررين والمذيعين في تلك الإذاعات يكتفون عند إعادة كتابة الأخبار في الغالب باستعمال التسكين في آخر كل مفردة، ثم يزعمون أنهم يقدمون أخبارهم بالدارجة المغربية. لقد تبين لهم صعوبة هذه العملية التي ترتبط باستعمال كلمات عربية فصيحة يستحيل ‘ترجمتها’ إلى العامّية.
المغاربة ليست لهم أية مشكلة مع اللغة العربية منذ قرون عديدة؛ بها كُتبت الأراجيز ومراجع الفقه والدين والتاريخ والفكر والأدب، وبها ألّف علماء وأدباء أمازيغ أمهات الكتب، وبها يحفظ الأميون ومحدودو التعليم القرآن الكريم، وبها كان يستمع العديد ممن لم يدخلوا قط المدرسة أخبار هيئة الإذاعة البريطانية عبر المذياع، قبل أن ينتشر التلفاز وتكثر القنوات الفضائية، وبها يتابع كهول وشيوخ أمّيون قناة ‘الجزيرة’ الإخبارية ويشاهد الصغار الرسوم المتحركة، وبها تتتبّع ربات البيوت غير المتعلمات ومعهن الخادمات المسلسلات المكسيكية ‘المدبلجة’ إلى هذه اللغة.
العربية هي إذنْ، جزء من هوية المغرب والمغاربة، والحمد لله أن لهذه اللغة رجالا ونساء يحافظون عليها ويحمونها بكتاباتهم الأدبية والفكرية وبأبحاثهم، وأيضا بنضالاتهم ومواقفهم المشرفة، مثلما فعل الدكتور عبد الله العروي في البرنامج الحواري المباشر على القناة الثانية.
والمطلوب أن يكون هناك، اليوم في المغرب، حرص شديد على سلامة اللغة العربية، تماماً مثل الحماس الزائد تجاه اللغة الفرنسية؛ فعلى سبيل المفارقة، نلاحظ أنه حين يقع خطأ في الكتابة أو التعبير باللغة الفرنسية في أحد البرامج أو في إحدى النشرات الإخبارية الفرنكفونية، يكون الأمر مدعاة للسخرية والاستهجان والامتعاض، أما حين يقع أمر مشابه لذلك في اللغة العربية فإنه يمر مرور الكرام. وما أكثر الكوارث اللغوية التي يرتكبها بعض المذيعين والمذيعات في القنوات التلفزيونية والإذاعية بالمغرب!
التلفزيون كمحفز غذائي قوي
لم نكن ندري أن التلفزيون صار له دور جديد يتمثل في ‘التحفيز الغذائي’ حتى شاهدنا ‘شهويات شميشة’، وقبله شاهدنا ‘مائدة’ الإعلامي والفنان الراحل عبد الرحيم بركاش. ورغم أن برنامج ‘شميشة’ ذو طابع شائق وجذاب، فإن العديد من المشاهدين المغاربة ممن لا حول لهم ولا قوة يشاهدونه بـ’عين بصيرة ويد قصيرة’، بحكم أن بعض الوصفات التي يقترحها لا تتيسر لهم لغلائها الكبير. ولكن على الأقل، كما يقول المثل العامي المغربي: ‘اللي ما شرا.. يتنزه’ (من لم يشتر شيئا فليكتف بالتنزه).
شعبية برنامج ‘شهويات شميشة’ لم تقتصر على المغرب فقط، بل وصلت حتى إلى الجزائر، متخطية الحدود المغلقة بين البلدين الجارين، وذلك دون حاجة إلى تأشيرة. ويبدو أن روح المنافسة اشتعلت في نفوس بعض الأشقاء الجزائريين ممن يملكون المال، فلم يكتفوا بإنتاج برنامج واحد للطبخ على غرار ما تفعل ‘شميشة’، وإنما جمعوا برامج عديدة للطبخ والديكور وفن العيش وغيرها ثم أدمجوها في قناة نسائية متخصصة أطلقوا عليها اسم ‘سميرة’ تبث طيلة اليوم.
ونظرا لأن برنامج ‘شهيوات شميشة’ يثير الاشتهاء البطني، فيُنصح أن يُكتب أسفل الشاشة عند بثه: ‘لا يُنصح تتبعه من طرف النساء الحوامل اللائي يعانين من الوحم’.
‘حوت بلادي’
لكن، المشكلة أنه حتى ولو طُبّق هذا الاقتراح، فإن ‘المتوحمات’ يعانين هذه الأيام من قصف تلفزيوني مكثف ومباشر نحو المعدة، ومصدره الإعلان التلفزيوني الذي يُبثّ يوميا والذي يدعو المواطنين إلى استهلاك السمك، تحت عنوان عريض ‘حوت بلادي’.
والمتأمل لهذا العنوان قد يفهم بأن المغاربة يستهلكون ‘حوت’ بلدان أخرى، والحال أن الكثير منهم لا يجدون سبيلا حتى إلى ‘حوت بلادهم’، أولا لثمنه الباهظ، وثانيا لعدم توفره بكثرة وبأنواع متعددة في الأسواق. وهذه أم الغرائب في بلاد المغرب التي تتوفر على 3500 كيلومتر من السواحل وعلى العشرات من موانئ الصيد والموانئ التجارية.
فعلى من يضحك أصحاب الفقرة الإعلانية التلفزيونية ‘حوت بلادي’؟ والجميع يعلم أن ما يدخل إلى الأسواق من أصناف سمكية تعد باهظة الثمن، بما فيها السمك الشعبي المعروف بـ’السردين’. والجميع يتداولون سرا وعلانية أن السمك الذي يُصطاد من أعالي البحار قد يكون مُحتكرًا من طرف المنتفعين من اقتصاد الريع، وهو ما حدا بالنائبة البرلمانية الصحراوية كجمولة منت أبي (قبل نحو شهرين) لأن تطالب ـ تحت قبة البرلمان ـ وزير الفلاحة والصيد البحري بالكشف عن لوائح المستفيدين من رخص الصيد في أعالي البحار.
‘حوت بلادي’ فقرة لا تستفز النساء الحوامل فقط، بل جل المغاربة، ولاسيما الذين يشاهدون السمك بمختلف أصنافه في التلفزيون فقط، ولكنه لا يلج بيوتهم قط.
الظاهر أن هناك حوتا ضخما هو الذي يبتلع الحوت الصغير.
* كاتب من المغرب
[email protected]
شكرا استاذ الطاهر الطويل على مقالتك الرائعة ودمت بخير
حضرة الأستاذ المحترم، شكرا على هذا المقال القيم الذي يغوص في أعماق الوضع اللغوي في بلادنا. يعود كل هذا إلى وضعنا الاجتماعي-الثقافي المتردي، لأن مسؤولينا و”مثقفينا” لا يفتخرون إلا بمعارفهم اللغوية الأجنبية. ثم إن برامجنا التعليمية ومحطاتنا الإذاعية والتلفزية المغاربية لا تقيم وزنا للغة الوطنية بل تبث الجهلَ فينا بإعلاء شأن اللغة الأجنبية …اللغة البديلة لا ولن تكون وسيلة ناجعة لتبليغ أفكارنا.
مقالة مميزة تشفي الغليل, شكرا جزيلا للكاتب الكريم …
… بارك الله فيك وكثر من أمثاك ، أخي طاهر … ونصركم على الطغمة المائعة واللوبي الفرنكوفوني المتغلغل في كافة المجالات في المغرب …ونصر الله اللغة العربية وحفظها …
التعليم العالي التقني والعلمي يدرس بغير العربية
الاعمال والابناك تتعامل بغير العربية
المرراسلات بين مؤسسات الدولة وووالعسكرية و الوصفات الطيبة بغير العربية
الابداع الفني –المسرح الاغنية النكتة الحلقة بغير العربية……اذن ما فاءدة اللغة العربة
ببساطة النظام الديمقراطي/الديكتاتوري لا ارتباط له بأي شيء له علاقة بالأخلاق
والمأساة في هذا النظام تعتبر أن لا إبداع إلّا بهدم كل الأصول اللغويّة وأقلّها عندما لا تلتزم بمعنى المعاني التي وردت في قواميس اللّغة فيما يُعرف بالحداثة (انتبه إلى الخبث فهو لم يقل التحديث بل الحداثة)
فلذلك من الطبيعي أن تكون أي ثقافة أو مثقف ينتج من هذا النظام هي مثقف مشبّع بثقافة تحقير العِلم والعلماء والمقاومة بكل أنواعها وأولها السلمية التي تعتمد محاججة الرأي بالرأي من خلال الدليل العلمي والمنطقي والموضوعي
لأنّه من تعوّد السمع والطاعة والترويج لأي رأي يُصدره الملك أو الرئيس أو الأخ القائد أو الرمز أو الصنم بدون أي تمييز هل هو منطقي أو موضوعي ناهيك أن يكون له أي علاقة بالعِلم أو الحِكمة:
من المؤكد لن يستطيع أن يكون له رأي خاص به، بل يحتاج دوما إلى من يقلّده كالببغاء،
ولذلك من المؤكد لن يستطيع التعايش في أجواء يكون فيها أكثر من رأي لأنّه لا يستطيع التمييز أيّهم أفضل من الآخر، ولماذا؟!!!
فلذلك من المنطقي أن اعتبر مثل هذه الأجواء غير صحيحة،
كما هو حال رأي مثقف دولة الفلسفة بشكل عام في الأوضاع بعد تحطيم حاجز الخوف عند الشعب فأدّى إلى هروب زين العابدين بن علي وغيره من الحكام
المثقف أو الحاكم الذي يحترم نفسه ويحترم شعبه يجب أن تكون لديه مصداقيّة وتطابق ما بين الأقوال والأفعال
وإلاّ فذلك دليل عملي على إهانة نفسه وشعبه، وهناك حكمة أمريكية تقول التاجر الجيّد هو سياسي جيّد ولكن ليس كل سياسي جيّد هو تاجر جيّد
والتاجر الجيّد لأي نوع من البضائع في الأجواء الحرّة يلتزم بالمصداقية مع زبائنه على الأقل من أجل أن يضمن عودتهم مرة ثانية للحصول على ولائهم شيئا فشيئا
ولاحظت أنَّ العولمة تكون ضد الأخلاق كلّما اقتربت من الديمقراطيّة،
ربما لأنَّ العولمة هدفها الربح من خلال توفير حاجة حسب اهتماماتك ورغبتك كإنسان أو بشر أو شعب،
بينما الديمقراطية/الديكتاتورية هدفها الربح حسب رغبة النُّخب الحاكمة
ما لا يعلمه مُثَّقَّف دولة الفَلسَفَة أنَّ الإسلام ولغته، يختلف عن بقية المعتقدات والأفكار والأديان واللّغات، وأهم سبب للإختلاف هو أنَّ الإسلام ولغته، لا تتقاطع مع أي شيء منطقي أو موضوعي أو الفطرة وبالتالي علمي،
فلذلك مسألة مهمة عملية تفنيد أي ادعاء بطريقة علمية وبالحُجّة والدليل طالما طريقة عرضه كانت جادة وبدون تهريج أو مسخرة ويجب أن يكون هناك فرق في أي لغة كانت، إن شاء الله كانت لغة الببغاوات ما بين التهريج أو المسخرة وما بين الأدب الساخر.
لأنَّ صاحب الدين في اللغة العربية يعني صاحب الأخلاق،
وفي الدين الإسلامي لا يوجد شيء اسمه رهبان لأنّه ببساطة لا يسمح بالرهبنة من جهة،
ومن جهة أخرى لا يوجد مقابل لكلمة الله في كل لغات العالم لا معنى ولا مبنى ولا اصطلاحا،
وفي الأخير هل من يفهم موقع اللهجات العربية من اللغة العربية
كما هو حال موقع اللغات الأوربية من اللغة اللاتينية
له أي علاقة بعلم اللغة أي لغة كانت إن شاء الله لغة الببغاوات فكيف الحال بلغة القرآن؟!
خصوصا وأنَّ عباقرة علم اللغة عندنا اخترعوا طريقة عبقرية خاصة لكتابة عدة قراءات للقرآن الكريم بنص واحد موجود بين أيادينا حاليا وهذا ما لا يتواجد في أي لغة أخرى
ما رأيكم دام فضلكم؟