اللغة المهملة لكلماتها

أعود بين الفينة والفينة إلى معجم «لسان العرب: الضخم ذي المجلدات الكثيرة لأتحقق من نطق كلمة، أو لأكتشف مدخلا لا أعرفه من قبل، أو لأيّ غرض من أغراض البحث عن المعنى المستتر خلف لفظ سائغ أو غريب. والحقيقة أنّي عادة ما أستطرد وأنا بين دفتي الكتاب الورقي غير الملوّن، فأرحل إلى أبعد من الكلمة التي أبحث عنها قاصدا – بلا ميعاد- مجاوراتها التي قبلها أو التي تكون بعدها. وما يشدّني حقّا في هذا القاموس أنّه جمع مادة ضخمة أجد الكثير منها غير معروف أو غير مستعمل. جعلني درسي اللسانيّ، أكثر حيادا وأقل عاطفة إزاء ضخامة حجم القاموس العربي، فلا أرى في ذلك لا فخرا ولا ثقلا مثلما قد أجده مكتوبا عند من يفخر بأنّ «لسان العرب» أعظم من لسان كذا أو كذا من جهة عدد الكلمات والمداخل. فليس بين لغة وأخرى فخامة ولا ضخامة، سواء في المعجم أو في البلاغة أو في غيرها.
كل صحيح أن المرء يشعر بالراحة حين يتكلم بلغة من اللغات، ويشعر بالثقل عندما يتكلم بأخرى، لكنّ ذلك نابع من العادة، فاللسان يميل إلى أن يحكي باللغة التي يعرف لأنّه سيظل مراقبا نفسه باحثا بأكثر جهد عن العبارات والتراكيب المناسبة. هناك لغات يجهدك تعلمها، وهناك لغات أخرى تتعلمها بسرعة، لكنّ ذلك أيضا لا يمثل مقياسا في المفاضلة بين اللغات.
المهمّ أن كثيرا من المفاضلات بين اللغات مؤسس على شيء خارج عنها وهو في الغالب انطباع نفسي، أو موقف ثقافيّ من الآخر ولغته حبّا أو كرها ذودا أو اتهاما. لكنّ اللغات في ذاتها وفي علاقتها بمستعمليها يمكن أن تدرس في ظواهرها المتعددة دراسة موضوعية علمية وهذا ما جاءت به اللسانيّات واعتبرته ركنا في علميّتها ركينا. لنعد إلى مسألة ضخامة موادّ المعجم العربي، وحاجة الاستعمال إليه، فهذا موضوع ينخرط في التفكير اللساني في باب الرصيد المعجمي، ومصادره ووجه حاجة المستعمل اليوم إلى مواده. فمن المعلوم أن ضخامة الموادّ المعجمية في اللسان العربي مأتاها من كثرة لهجات العرب القديمة، فالعربية في عصر ما يعرف بالجاهلية، وفي الجزيرة العربية كانت أشتاتا من اللهجات المتقاربة والمتباعدة بأصواتها وبمعجمها، وبكيفية أجرائها للإعراب وما نتكلمه اليوم هو عربية استطاعت أن تأخذ قليلا أو كثيرا من تلكم اللهجات ولا نريد العودة إلى اللهجة المهيمنة والمواقف الانفعالية التي وجدناها بقلم اللغويّيين بالأساس من أن هناك عربية مستحسنة وأخرى مستهجنة.
ومن الممكن أن تجد تسميات كثيرة لمسمّى مرجعي واحد، فعلى سبيل المثال يسمى القمح أسماء متنوعة حسب لهجات العرب، فهو الحنطة والبرّ والقمح ويسمّى تسمية عامّة الحبّ وتسمية مخصوصة الزرع، ويسمى باعتبار النوع تسميات كثيرة في المناطق الفلاحيّة التي يميز مزارعوها بين أنواع كثيرة من القمح. ومن جهة أخرى فإنّ المادة المعجمية العربية مادّة تغلب عليها التسميات البدوية، فكلّ شيء كان في محيط البدويّ يقبل أن يتسمّى بتفاصيل كثيرة، فعلى سبيل المثال تسمّى الخيل والإبل حسب أعمارها ومراحل نموّها وتسمّى جزئيات الخيمة بكثير من تفاصيلها وهي مكوّن واحد لا يجد المتكلم اليوم من فائدة في معرفة دقائقه التي استطاعت أن تنتزع من العربي تسمياتها.
المهمّ أن من ينظر مثلي في «لسان العرب» سيجد كثيرا من المداخل التي لم تعد مستعملة، لقد أهملها الاستعمال وغضّ المستعمل الطرف عنها. ونحن سنقدم في بقية المقال عيّنات تدلّ على أن العربية لا تلتفت اليوم إلى مداخل معلومة هي موجودة ومستعملة منذ القديم. فما كان مستعملا منها بات مهملا وهذا يعني أن المهمل والمستعمل الذي حدّثنا عنه النحاة العرب والذي يدخل اليوم تحت خانة القدرة والإنجاز ليس مسألة ثابتة.

المهمل عند النحاة هو كلّ توليف صوتي لا يستعمل في اللغة العربية، وقد يستعمل في لغات أخرى، لكنّ المستعمل هو أيّ توليف صوتي يستعمل في العربية فلو أردت أن أؤلف كلاما من الأصوات الثلاثة التالية (ن. ق. ع) لوجدت (نَقع ) و (عنق) (قنع) وما اشتق منها فهي توليفات مستعملة لن أجد (عقن) لأنّه مهمل لا تستعمله العرب قال الأَزهري: أَما عَقَنَ فإِني لم أَسمع من مُشْتقاته شيئاً مستعملاً إلا أن يكون العِقْيَانُ فِعْيالاً منه، وهو الذَّهَبُ ، ويجوز أن يكون فِعْلاناً من عَقَى يَعْقِي، وهو مذكور في بابه .
في مادة (م. ش. ق) نجد في «لسان العرب» ما يلي: المشقة في ذوات الحوافر: تفحُّج في القوائم وتشحّج ومشِق الرجل يمْشق مشقا فهو مشِقٌ مَشَقا، إذا اصطكت إليتاه حتى تشحّجتا وكذلك باطنا الفخذين. ورجل أمشق والمرأة مشقاء بيّنا المَشقِ. (لسان العرب، ج.10، ص. 344). أنا لم أستعمل هذه العبارة ولا اضطررت إلى البحث عنها. والغريب أن الحاسوب الذي يسطر لي الكلمات الخاطئة بالأحمر تعرف على جميع كلمات مشق المذكورة ولم يسطرها، لأنّه أوّلها بما لديه من المشقّة. بينما سطر تشحّج لأنّه لا يعرفها ولم يحتج المعجم الآلي إلى أن يحشو دماغ الحاسوب بعبارات لا تستعمل أو نادرة الاستعمال. وعلى الرغم من أن المشقة تطلق على هيئة من هيئات ذات الحوافر تتعلق بقوائمها وتفحّجها فإنّ هذه التسمية نقلت إلى المجال البشري ليتسمى بها الماشي الممتلئ الذي يؤثر امتلاؤه على مشيته فيحتك فخذاه. وهذا موجود في عصرنا، غير أنّا لا نسمّيه أو لنقل لا نحتاج أن نجد له لفظا يسميه. قليل من يركز نظره في المدينة على الماشين في الشارع، ويميز من اصطك فخذاه وهو لا يعنيه أن يعرف صفته الفصيحة.
لقد كان صاحب الخيل مثلا يهتم بهذه التفاصيل وهو يراقب إبله ونقل انتباهه من الإبل إلى البشر. هذا ضرب من التبئير والتركيز على هذه التفاصيل، لم يعد ذا فائدة. ربما كان المسافر على النوق أو الخيل يختار لسفره الدابة التي لا تشكو شفقا، لكنّ اليوم انتقل نظرنا إلى عجلات السيارة وإلى تعديلهما، وإلى البحث فيهما عن الموازاة الصحيحة وصار ذلك عيبا يراعى في امتحان السيارة في المصالح الفنية؛ لكن لا أحد من المترجمين العرب يحتاج اليوم أن يسمي عدم التوازي بين العجلات مشقا قياسا على مشق الدابة لأنّ القياس بعيد ولأنّ الاستعمال لا يفيد.
ما زلنا نرى شخصا يمشي بعنت لأنّه مشق، لكنّنا لا نعتبر ذلك عيبا كبيرا يحتاج طبيبا وداء يشخصه الطبيب تحت هذا الاسم. أمّا المرأة المشقة فليس مشقها معيبا لها حتى يحتج به من لم يسع في طلب يدها. تغير التبئير على العبارة لأنّ إدراك الكون بات مختلفا بين رائي الأمس ورائي اليوم. هذا سبب من الأسباب الكثيرة التي تجعل عبارة تستعمل في وقت ولا يحتاج إليها في آخر.
وفي موضع آخر من المدخل نفسه نقرأ: والمشق شدّة الأكل يأخذ النحضة (قطعة اللحم العظيمة) فيمشقها بفيه مشقا. ومشق من الطعام يمشق مشقا تناول منه شيئا قليلا ومشقت الإبل في الكلأ تمشق مشقا: أكلت أطايبها ومشقتها إذا أرعيتها إيّاه. (المصدر نفسه). يأخذ الإنسان أفعاله وصفاته من أفعل الدواب الملازمة له. هاجس الراعي أن يجد لإبله الكلأ ويجذل ويهيم بطريقة أكلها إن أكلت طريا؛ وأين الكلأ الطريّ من راع يبحث لغنمه ولإبله عن كلأ: إن أكلت أكل وإن شربت شرب.. فإن فعلت نقل الفعل والاسم والصفة منها إلى نفسه: يأكل البشر وتأكل الإبل ويتقاسم الجمعان الفعل نفسه؛ والحلم كل الحلم أن يجد الحيوان مرعى طريا حتى يجد الراعي مأكلا طريا، وحين يعيش هانئا يستطيع أن يسمّي ويصف ولا قسمة بين الحيوان في اللغة والإنسان ولا يتعلق الأمر هنا بالمجاز وتطوره عن الحقيقة فالأمر مشاع مشترك ولا خصومة حول الأسماء.

أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية