تكتسي اللغة أهمية حيوية في حياة البشر عموما، باعتبارها الأداة الأكثر فعالية في تحقيق التواصل في ما بينهم، علاوة على امتلاكها القدرة على التعبير عن رغباتهم الملحة، والمساعدة كذلك على تحقيقها بشكل فعلي أو رمزي، كما يذهب إلى ذلك منظرو التحليل النفسي، وقد أحدثت اللغة منذ اختراعها ثورة حقيقية وحاسمة في تاريخ البشرية، فالإنسان بعد سيطرته على أصواته من أجل تشكيل اللغة، وتطويعها لتحقيق رغبته الشديدة في التواصل، تغيرت حياته بشكل كلي، فانتقلت نتيجة لذلك من حال إلى حال أفضل، أكثر تنوعا وتعقيدا، حتى إنه يصعب اليوم تخيل حياة البشر، دون لغة.
وإذا كان فقه اللغة أو الفيلولوجيا قد درس اللغة باعتبارها وسيلة لتأدية وظائف أخرى خارجة عنها، هذه الوظائف التي تكون في أغلبها اجتماعية أو دينية، وقد حدث ذلك بشكل عام في المجتمعات القديمة، ولم تشذ عن هذا التوجه الثقافة العربية، التي كرست كل المجهودات العلمية اللغوية، بما فيها النحو والمعجم والبلاغة، من أجل فهم القرآن الكريم وتفسيره، فإن اللسانيات في المقابل أحدثت ثورة حقيقية في التعاطي مع اللغة، وقد حدث ذلك انطلاقا من دي سوسير، بحيث أصبح نتيجة لبحوثه التي جمعت في «محاضرات في اللسانيات العامة» ودروس طلبته، الاهتمام باللغة في ذاتها ولذاتها، فتشعبت بسبب ذلك البحوث حولها، وتعمقت وظهرت اتجاهات ومدارس، كل منها تحاول فهم هذا الكائن، الذي غدت له حياته الخاصة وخصوصيته، التي لا يجادل فيها أحد، وهكذا عرف الحقل العلمي اللساني بروز علوم خاصة باللغة، انطلاقا من الصواتة والمورفولوجيا وعلم العلامة وعلم الدلالة، تزعمها أعلام لا يشق لهم غبار من أمثال، تودوروف وبنفيست وبيرس وتشومسكي وغيرهم.
وإذا كانت الوظيفة التواصلية قد هيمنت عبر التاريخ على باقي وظائف اللغة الأخرى وذلك بسبب الحاجة الملحة للتواصل في ما بين الأفراد والجماعات، فقد استطاعت اللغة بمكر إبداعي مشهود ان تنزاح عن هذه الوظيفة الأساسية، التي وجدت من أجلها، لتنحت لنفسها وظائف أخرى مرتبطة عموما بحياة الإنسان وهمومه وتعقد حياته، فكان لا بد والحال هذه أن يناجي نفسه مثلا، أو يعبر عما يفكر فيه بطريقة غير مباشرة خوفا على حياته، أو درءا للحرج، وأن يتوسل لآلهته، ويحتفل بنجاحاته، ويحزن لإخفاقاته، فكانت اللغة وسيلة مسعفة في التعبير عن كل ذلك، فظهر نتيجة لذلك فن المناجاة والدعاء والشعر والأسطورة، وغيرها من فنون القول، التي تطورت لتصبح في ما بعد، ما يطلق عليه حاليا الأجناس الأدبية، التي نعرفها في عصرنا هذا، والتي أسال تعريفها مدادا كثيرا، حسب تنوع النظريات والمناهج واختلاف الدارسين.
وهكذا نلاحظ تعدد الأجناس الأدبية بتعدد النظريات التي تؤطرها، وبقدرتها المختلفة والمتباينة على التعبير بطريقة فنية عن مشاغل الإنسان وهمومه وطموحاته وأحلامه، وقد تطورت هذه الأجناس عبر التاريخ، وكان الشعر والخطابة والكوميديا والتراجيديا، من أهم أنواعها في العصر القديم، وفي رأيي المتواضع إنها جميعها انبثقت عن الأسطورة والترانيم الدينية وأغاني الفلاحين البسطاء، الذين كانوا يرددونها لتحمل ضنك الأعمال الشاقة التي يزاولونها، كما أنها منحدرة من الأهازيج التي أبدعها الناس في الأعراس والمناسبات، وفي ما بعد ظهرت الأجناس الأدبية الحديثة، التي كانت الضرورة الاجتماعية سببا رئيسا في ظهورها، فكلما برزت فئة اجتماعية أو دينية أو ثقافية، احتاجت إلى شكل فني يعبر عنها، فطوّع مبدعوها اللغة لتحقيق ذلك، ولنا في ظهور الطبقة البورجوازية خير مثال، إذ أدى ظهورها بعيد الثورة الصناعية، التي أشرت إلى بروز عادات اجتماعية جديدة، لم تألفها البشرية من قبل، فظهرت الرواية كجنس أدبي يحاول التعبير عن هذه التحولات الجديدة، حتى إنها سميت بملحمة البورجوازية، وبالمثل فظهور فئة من الأفاقين والمخادعين في المجتمع العباسي، أدى إلى ظهور فن المقامة، الذي برع في تصوير هذه الفئة من الناس، والتعريف بهم والسخرية منهم ومن المجتمع الذي أنتجهم، وإن بطريقة غير مباشرة.
وإذا كانت الأجناس الأدبية قد اختلفت في خصائصها العامة المميزة لكل جنس على حدة، حفاظا على هوية كل منها، وعدم ذوبان أحدها في الآخر، فإنها اختلفت كذلك في توظيفها للغة، فكما يعلم الجميع ففي الأدب عموما، تعد اللغة الأداة الأساسية، فكل الأجناس الأدبية تشترك في هذه الخاصية الكبرى، غير أن كل جنس منها خط لنفسه طريقا مختلفا عن غيره في توظيفه للغة، وقد انقسمت في ذلك عموما إلى مسارين كبيرين، وداخل كل مسار نجد هناك فروقات واختلافات نوعية، تميز كل عنصر من عناصر أحد هذين المسارين، فالنثر مثلا تميزه لغته الساردة والواصفة، ويتميز الشعر كذلك الشعر بلغته المكثفة والمجازية، لكن داخل النثر نجد هناك تنويعات في الكتابة، ومنها السرد والمقال والمقامة وغيرها، كما أن داخل المسار الثاني نجد الشعر بأنواعه، فمن القصيدة العمودية التقليدية إلى الموشحات، مرورا بقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر والهايكو والزجل، وكل منها لها تعامل خاص مع اللغة.
وإذا ما ركزنا حديثنا على النثر، فإن ما يستحق التوقف عنده هو الأجناس الأدبية ذات الصبغة الأدبية الفنية، أقصد تلك التي تتميز بطابعها التخييلي، وهي السرد بأنواعه، كالرواية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جدا، فيمكن أن نسجل أنها عموما تتخذ من اللغة وسيلة، لأنها تتوفر على عناصر أخرى لا يتعين على الكاتب إغفالها، كالشخصيات والأحداث والزمان والمكان والحبكة، فهذه العناصر التي تكون العمل السردي تحد من هيمنة اللغة عليه، وتجعلها عنصرا كباقي العناصر الأخرى، لذا تجد كاتب القصة مثلا يوظف لغة تتميز إلى حد ما بنوع من الحياد والموضوعية، حتى لا تفتتن بذاتها، وتثير انتباه القارئ، وتشغله عن تطور الفعل السردي، وإنما تسمح لباقي المكونات بالظهور، ومع ذلك لم يمنع هذا الوعي الأجناسي من ظهور أدباء افتتنوا باللغة في ذاتها، فغلبوها على باقي العناصر، حتى أصبحت كتاباتهم مجرد توليدات لغوية، فأدى ذلك إلى هدم الحدود ما بين الأجناس الأدبية، وظهر بالتالي ما يسمى بالكتابة «عبر نوعية» متأثرة في ذلك بما يسمى بالحساسية الجديدة في الرواية، التي نشأت في فرنسا، وتزعمها الكاتب الفرنسي آلان روب غرييه، فيما برز في الرواية العربية اسم إدوارد خراط كرائد لهذا التوجه، وقد انتبه الأدباء بعد ذلك إلى خطورة هذا التوجه، الذي يؤدي إلى إفقار النص الأدبي، والتضحية بالتنوع الأجناسي، الذي ميزه دوما، فعادوا نحو توظيف اللغة كأداة، لكن دون التضحية بجماليتها ورشاقتها، ليؤهلها ذلك لتنتمي لما يسمى بالنثر الفني.
وداخل السرد نجد الاهتمام باللغة عموديا أكثر منه أفقيا، يزداد كلما عبرنا من الرواية نحو القصة القصيرة، ويشتد هذا الاهتمام مع القصة القصيرة جدا، ويتمثل هذا الاهتمام في التكثيف، الذي تخضع له اللغة، فلغة القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا أشد تكثيفا، نظرا لصغر حجمها، ما يحتم على الكاتب تحرير ما يرغب في قوله في حيز ضيق، ما يدفعه إلى التسلح بالبلاغة لتأدية مهمته، وليست البلاغة من حيث العمق سوى إجاعة اللفظ وإشباع المعنى، كما عبّر عن ذلك اللغوي عبد القاهر الجرجاني. ربما هذا ما يجعل لغة القصة القصيرة ولغة القصة القصيرة جدا تتماهى أحيانا مع لغة الشعر والخاطرة، وقد تسقط في فخهما، إذ لم يكن الكاتب متيقظا وواعيا بالفروقات الدقيقة، ما بين لغة السرد ولغة الشعر.
أما إذا عرجنا على المسار الثاني، والمقصود تحديدا مسار الشعر، فيمكن اختزال الاهتمام باللغة في كونه ينزع نحو استعمال المجاز عموما، والحفر عموديا في المعنى، فإذا كان الشعر العمودي يميل نحو توظيف التشبيهات لتحقيق ذلك، فإن الشعر الحديث يميل نحو استعمال الاستعارة، كما أن هناك اختلافا في توظيف المعجم، فالشعر القديم يمكن اعتباره شعرا معجميا، بمعنى أنه يوظف ألفاظا يحتاج القارئ إلى القاموس لفهمها، في حين يستعمل الشعر الحديث ألفاظا بسيطة لا تحتاج إلى القاموس، لكن المعنى العام للقصيدة يبقى غامضا لأسباب عدة منها أن الشاعر أصبح ينهل من مرجعيات فكرية متنوعة، فلسفية في عمومها كما يلجأ إلى توظيف الرمز والأساطير، لذا يستغلق المعنى على القارئ العادي.
كما أن التركيب يخضع في الشعر القديم إلى ما يمكن أن نسميه بلاغة النصوص المؤطرة للثقافة العربية عموما، كالقرآن الكريم والحديث وسجع الكهان والأمثال والخطب القديمة والسير، يميل نحو الفصاحة، في حين ينحو التركيب اللغوي في الشعر الحديث نحو السهولة، فأضحى بسيطا متأثرا باللهجات السائدة، وبما هو متداول في الشارع من تعابير، وكأن الهدف من ذلك إنزال الشعر من برجه العاجي ليقترب من لغة التخاطب والحياة اليومية البسيطة للناس.
وخلاصة القول إن اللغة نسق حي من الإشارات والعلامات، لا يكف عن التطور بتطور حياة لناس وتعقدها، وأن توظيفها في الأجناس الأدبية هو انزياح عن وظيفتها الأساسية المتمثلة في التواصل لتؤدي وظائف فنية وجمالية، تعمق تصور الإنسان لذاته وللعالم من حوله، بعيدا عن النظرة الأحادية السطحية، وقد اجتهد كل جنس أدبي على حدة لخلق لغته الخاصة التي تلائم ماهيته ووظائفه والإشكالات الفنية والدلالية التي يحاول التعبير عنها.
ألقيت هذه المداخلة بمناسبة احتفال فريق اللسانيات والإنسانيات في أكاديمية بيت اللسانيات (تركيا) في اليوم العالمي للغة العربية.