قد لا يرى أحاديو اللغة فرقا بين الأشياء والأسماء المخلوعة عليها، فالسائل المتكوّن من ذرتي هيدروجين وذرة أوكسجين، على سبيل المثال، هو الماء قطعا والكوكب الأخ الأصغر لكوكب الأرض هو القمر تحديدا، وليس أي كلمة أخرى. بل قل غالبا ما يجد بعض أحاديي اللغة، أن اللغة الأجنبية، غير المعتادة بالنسبة إليهم، غريبة وشاذة أو «معجمة» بالمعنى الأدق، وهذا نابعٌ من إغفال حقيقة أن اللغة مجرد اتفاق عُرفي موروث على تقاليد لغوية معينة بين مجموعة من البشر وأن الأشياء في حقيقتها قصةٌ أخرى. أود الإشارة في هذا الصدد إلى ثلاثة أمثلة، الأول هو مثال السيدة الإنكليزية التي تستغرب من أن الماء (Water) يسمى في الفرنسية (l’eau) وفي الطليانيّة (del’ acqua) وفي الألمانيّة (das wasser) ثم تقول، إن الإنكليز وحدهم يسمونه باسمه الصحيح (ووتر). يمكن أن نعزو هذا إلى الاعتزاز البشري بالقومية أو إلى الإيمان المضلل وربما البدائي بأن لغته هي العالم ذاته، أو أنها خير لغة للتعبير عن العالم.
يذكر المفكّر عثمان أمين في مقدمة كتابه «فلسفة اللغة العربية» قول أبي منصور الثعالبي في فاتحة كتابه «فقه اللغة العربية» إن من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب رسوله أحب العرب، ومن أحب العربية أحبها وثابر عليها وصرف همّته إليها، ومن شرح الله له صدره، عرف أن العرب خير الأمم، وإنَّ العربية خير اللغات. إذا كان اعتزاز السيدة الإنكليزية بلغتها فيه شيء من البدائية، فإن الرؤية التي يكرّسها عثمان مفلسفة في سياق الفكر الديني- القومي.
المثال الثاني أكثر شاعرية كما أظن وهو حكاية قرأتها يوما عن الشاعر العراقي المتمرد حسين مردان (1972-1927). يقال إن أصدقاء الشاعر حثّوه على توسيع آفاقه الثقافية والمعرفية بتعلّم لغة أخرى، إذ لا يكتمل نموذج المثقف إلا باطلاعه ومعرفته بلغة ثانية كما كان سائدا أيامها. هكذا تبرّع أحد الأساتذة المثقفين بتعليم حسين مردان اللغة الإنكليزية. يقول الأستاذ جاء مردان ليس كعادته في الموعد المحدد للدرس الأول، ومعه دفتر ملاحظات كأيّ تلميذٍ حريص وقبل أن أبدأ قال لي: قبل أن تبدأ بتعليمي الإنكليزية هل لي أن أسألك ما اسم القمر في الإنكليزية؟ يقول فأجبته (Moon) ألقى حسين بدفتره بعيدا وهو يصيح مندهشا ومستنكراً: القمر، هذا القمر، القمر الجميل، البديع، مجرد «مون»؟!
لعلَّ في هذا دليل على علاقة الشاعر بلغته إذا جاز التعبير، فالشاعر في نهاية الأمر هو لغته، ولغته هيَّ كلُّ ما يعرفه من أو عن العالم، لكن القمر الكلمة غير القمر الكوكب. لا أريد من سوق هذا المثال النيل من ألمعية الشاعر المتمرد مردان، كما لا أظن أن قصدي هو اتهام السيدة الإنكليزية أو الثعالبي، الذي استشهد به عثمان أمين، بضيق الأفق، وإنما الإشارة إلى الالتباس البشري الشائع بين اللغة ووظيفتها والعالم ووصفه.
أما ثالث الأمثلة فيتعلّق بمجال فلسفة اللغة والترجمة برؤيتين فلسفيتين يمثل أحدهما برتراند راسل وريث تقاليد الفلسفة الوضعية، ويمثل الأخرى رومان جاكوبسن أحد روّاد المنهج البنيوي. يسوق رومان جاكوبسن مثاله هذا في غمار تفحّصه لأسئلة الفلسفة التقليدية – كما يصفها- عن اللغة والعالم، وكما ترد في جملة من كتاب للفيلسوف برتراند راسل حيث يقول: «لا يمكن لأحد أن يفهم كلمة (Chees- جبن) ما لم تكن له معرفة غير- لغوية بالجبن». يقول جاكوبسن إذا تفحّصنا التكوين اللغوي لهذه الجملة، وركّزنا في ظله على الأبعاد اللغوية للأسئلة الفلسفية التقليدية فسنجد أننا مجبرون على تصحيح قول راسل، وعلى القول بألا يمكن لأحد أن يفهم كلمة (Cheese) ما لم تكن له معرفة بالمعنى الملحق بهذه الكلمة حسب الشيفرة المعجميّة في اللغة الإنكليزية. بكلمة أخرى يمكن لأي قادم من أي ثقافة غير- جُبنية (لم تعرف أو تخبر الجبن) أن يفهم هذه الكلمة إذا كان يدرك أنها إشارة إلى منتج معين من منتجات الحليب.
سحرية اللغة
نحن نفهم ونعرف معاني كلمات تشير إلى أشياء سحريّة أو قدسية، دون أن تكون لنا معرفة غير- لغوية بتلك الكلمات. لنا أن نفهم معنى كلمة الكوثر في العربية، أو كلمة سقر، أو طوبى على سبيل المثال دون أن تكون لنا معرفة بالكوثر أبعد من الحدود اللغوية، يحدث الالتباس في واقع الأمر، وكما يقول جاكوبسن عندما نعزو هذه القيمة الدلالية «السميوطيقية» لا إلى الدلالة، بل إلى المدلول ذاته. لا مدلول دونما دلالة فمعنى كلمة (Cheese) لا يتولد من المعرفة غير- اللغوية بالجبن كغذاء، دون معرفة بالرمز القولي الموكل بالدلالة عليه في لسانٍ ما.
الكلمات بتعبير بورخيس ذاكرةٌ مشتركة، إنها كلُّ ما ندرك من هذا العالم، نعم هي رموز صوتية وإملائية عرفية منفصلة عن العالم الموضوعي، ولكنها عالمنا القابل للوصف بأسره. إنها – بتعبير جورج شتاينر – حارسة المعنى، لكنها ليست بالخالدة ولا بالمعصومة، إنها تبلى أو تظلّ تُبعث في كلّ مرة بمضامين جديدة. حقل المعاني نفسه ينزاح متغيرا مع العصر والحياة اليوميّة للبشر. كلُّ فعلٍ فلسفي، كما يقول شتاينر، وكلّ محاولةٍ للتفكير في فكرةٍ ما باستثناء تلك ذات الطبيعة الحسابية أو المنطقية الرمزية، هي فعل لغوي محض.
تخبرنا كتابات هيرودوتس التي تعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد عن ملك مصر بسماتيك، الذي أراد أن يعرف أيّ الأمم هي الأقدم في التاريخ، وذلك بأن أمر بعزل طفلين رضيعين بعيدا عن الناس، وأوكل أمر رعايتهما إلى واحدٍ من حاشيته، على أن لا ينطق بكلمة في حضرتهما، ولمّا بدأ الطفلان الكلام نطقا بكلمة (باكوس) التي تعني الخبز في لغة الفراعنة.
إن التفكير أو التفلسف يُفْهَم في مسار خطابه (Discourse) وهو مشفّر بالكلمات والنحو، وسواء كان الطرح الفلسفي قولاً أو كتابةّ، فإن الصياغة وتداول موضوع الجدل، تبقى خاضعة في النهاية إلى ديناميكيات وحدود اللغات البشرية. وكما يقول عالم اللغة والفيلسوف والضمير الحي لعصرنا نعوم تشومسكي: إنَّ ثمة أشياء مذهلة لا تعد في الخواص البشرية، وكلّ هذه الخواص تتفرّع من حقيقة امتلاكه اللغة. الموقع الأول بين هذه الخواص يكون للفكر يقيناً وهو تمظهر لمَلَكَة اللغة. خلال أربعة مليارات سنة من الحياة على هذا الكوكب كان هناك ما يقارب الخمسين مليارا من أنواع الكائنات الحيّة؛ نوع واحد فقط هو نوعنا ذلك الذي لديه القدرة على التفكير وصياغة معتقدات ومناظرات وإقناع وجدل وتسلية، وهذا كلّه لأن لدينا مَلَكَة اللغة. ثمّة تنوّع مدهش في اللغات التي يتحدث بها البشر. لكن هذا التنوّع ليس مدهشاً حسب، بل ينطوي على غموض عميق، وعلى إشكالية كبرى في ما يتعلّق بأصوله السايكولوجية، أو السوسيوتاريخية كما يقول شتاينر في كتابه (بعد بابل) في فصل (اللغة والغنوصية)؛ موضحاً أنّنا لا نجد في تنوّع اللغات المدهش هذا مدعاةً للحيرة والتساؤل، إلا حين ننتشله من سياق الأمر الواقع ونتفحّص غموضه متأملين هذا التمايز غير الطبيعي بين الأنظمة اللغوية لدى المجتمعات البشرية، وفي نموّها وتبني أنساقها التي تصرخ فينا مطالبة بنظرية تبوّبها وتدرس ظواهرها. فالسؤال الحري الذي ينهض من هذا التنوّع والاختلاف هو لماذا يمتلك البشر هذا النوع من الكائنات جهازا هضميا معقد التكوين، ولكنه واحد في كل واحد منهم كما يمتلكون نسيجا بايوكيميائيا وجينيا عاما وتكوينا مخيّا موحدا، ولكنهم لا يتحدثون لغة واحدة؟
اللغة واللسانيات
تخبرنا كتابات هيرودوتس التي تعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد عن ملك مصر بسماتيك، الذي أراد أن يعرف أيّ الأمم هي الأقدم في التاريخ، وذلك بأن أمر بعزل طفلين رضيعين بعيدا عن الناس، وأوكل أمر رعايتهما إلى واحدٍ من حاشيته، على أن لا ينطق بكلمة في حضرتهما، ولمّا بدأ الطفلان الكلام نطقا بكلمة (باكوس) التي تعني الخبز في لغة الفراعنة. ولعل في ما ذكره المؤرخ الإغريقي مثالا عن قدم السؤال عن اللغات وأصلها. يقول ليونارد بلومفيلد في معرض حديثه عن دراسة اللغة في كتابه الرائد «اللغة واللسانيات» إن الإغريق تمتعوا بموهبة الدهشة إزاء العالم والأشياء التي نظر الناس إليها، باعتبارها من الأمور المسلم بها، وهكذا تفكّروا عميقا وبجرأةٍ وإصرار في تكوين اللغة – كما في محاورة كراتيلوس لإفلاطون، والتفكير في علاقة الاسم بالمسمّى أو الدلالة بالمدلول- ولذا فالتراث البشري يدين بالكثير لتأملاتهم السبّاقة. التأمل في طبيعة اللغة ونشوئها وتطورها واختلاف الألسن هو ولا شك في لب مغامرة الإنسان في فهم العالم وفهم نفسه ومجتمعه. ولعل في البلبلة التي صبّتها الآلهة على بني البشر من بنّائي برج بابل واختلاف ألسنتهم، كما ترد في التفسير الديني، تبريراً لهذا التنوّع المحيّر في الألسن بإيعازه إلى قوة ربّانيّة. نجد في السفر الحادي عشر من سفر التكوين من العهد القديم التبرير الديني التالي لاختلاف اللغات:
كَانَتِ الأَرْضُ كُلُّهَا لِسَانًا وَاحِدًا وَلُغَةً وَاحِدَةً. وَحَدَثَ فِي ارْتِحَالِهِمْ شَرْقًا أَنَّهُمْ وَجَدُوا بُقْعَةً فِي أَرْضِ شِنْعَارَ وَسَكَنُوا هُنَاكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «هَلُمَّ نَصْنَعُ لِبْنًا وَنَشْوِيهِ شَيًّا». فَكَانَ لَهُمُ اللِّبْنُ مَكَانَ الْحَجَرِ، وَكَانَ لَهُمُ الْحُمَرُ مَكَانَ الطِّينِ. وَقَالُوا: «هَلُمَّ نَبْنِ لأَنْفُسِنَا مَدِينَةً وَبُرْجًا رَأْسُهُ بِالسَّمَاءِ. وَنَصْنَعُ لأَنْفُسِنَا اسْمًا لِئَلاَّ نَتَبَدَّدَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ». فَنَزَلَ الرَّبُّ لِيَنْظُرَ الْمَدِينَةَ وَالْبُرْجَ اللَّذَيْنِ كَانَ بَنُو آدَمَ يَبْنُونَهُمَا. وَقَالَ الرَّبُّ: «هُوَذَا شَعْبٌ وَاحِدٌ وَلِسَانٌ وَاحِدٌ لِجَمِيعِهِمْ،وَهذَا ابْتِدَاؤُهُمْ بِالْعَمَلِ. وَالآنَ لاَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ كُلُّ مَا يَنْوُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ. هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ هُنَاكَ لِسَانَهُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ بَعْضُهُمْ لِسَانَ بَعْضٍ». فَبَدَّدَهُمُ الرَّبُّ مِنْ هُنَاكَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ، فَكَفُّوا عَنْ بُنْيَانِ الْمَدِينَةِ، لِذلِكَ دُعِيَ اسْمُهَا «بَابِلَ» لأَنَّ الرَّبَّ هُنَاكَ بَلْبَلَ لِسَانَ كُلِّ الأَرْضِ. وَمِنْ هُنَاكَ بَدَّدَهُمُ الرَّبُّ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ.
تجمع الدراسات العلمية المهتمة بالبحث عن أصل اللغة على أنَّ الخطوات الأولى للبشر في تكوين ألسنتهم تكاد أن تبقى مجهولة ولا نعرف عنها في الواقع سوى القليل، رغم وفرة التكهنات التي يقدمها لنا اختصاصيون في حقول عديدة. وبعيداً عمّا ذكره المؤرخ الإغريقي هيرودوتس وعن التصور الأسطوري السحري لبلبلة الألسن الذي يقدمه الكتاب المقدّس، فقد شهد التاريخ، كما أسلفنا تقاليد عريقة في البحث عن أصل الألسن وأسرارها. أرست الهند القديمة تقاليد لدراسة اللسان وأنظمته، وكذلك فعل الأغريق والرومان وفي ما بعد العرب واليهود، لكن تلك الدراسات كانت في الغالب تقتصر على تحديد الصواب والخطأ، وترجيح المقبول والسائد على الشاذ والنادر. أمّا علم اللغة (اللسانيات) فلا يدين بشيءٍ إلى تلك التقاليد، بل هوَّ نتاج توجهٍ جديدٍ ظهر في الغرب مع بداية القرن العشرين.
كاتب عراقي
اضع بعض القطرات ادا سمح لنا المنبر وكدالك الباحت المحترم قرأنا هد ا الموضوع الفني التاريخي صحيح لكل لغة تاريخ منها من أكلها الزمان ومنها من دابت ومنها من شابت ومنها من بقيت الى يومنا هد ا لكن تظل اللغة العربية أم أينما وضعتها وجدتها فهي غنية جد ا باالنغمات الموسيقية وهناك أشياء تنوعت اللغة في تسميتها بين قوسين وليس خروجا عن الموضوع وعلى سبيل المثال فقط كلمة* أمعة *لم يفهمها العرب الدين كانوا يتقنون بشكل جيد اللغة العربية كانت في كل عرق من عروقهم وهي تعني أنا مع الناس ان أحسنوا أحسنت وان أساءوا أسأت لالالا بل أحسن في كل لامور
مقال مذهل غزير بالمعلومة وجميل بالسرد اللغوي العالي الدقة متفرد بالوصف