اللقاء الأوّل عبارة لا تطلق إلاّ على من تكرر اللقاء به وسعدت به النفس ثمّ شقيت أو ظلت بعد ذلك سعيدة. حين تلتقي بعابرين في معابر العمر ولا تعيد رؤيتهم فإنّك لن تتحدّث البتة عن اللقاء الأوّل. اللقاء الأوّل هو في عمر العلاقات العميقة كبداية عصر الكتابة بالنسبة إلى تاريخ كامل من التدوين؛ هو بداية التأريخ لمسار علاقي مميز. عادة ما يكون اللقاء الأوّل شيئا يخص علاقة عميقة كعلاقات الصداقة أو العشق، ولا يمكن أن نتحدّث عن لقاء أوّل في سياقات العلاقات الرسمية كعلاقات المهنة، ولا يمكن أن تتحدث عن رئيسك في العمل عن لقاء أوّل؛ ولا يمكن أن يتحدّث زعيم سياسي عن لقاء أوّل بالشعب، أو بشريحة منه. هذه لقاءات لا تصنع ذاكرة شاعريّة.
اللقاء الأوّل عبارة تقتضي أن هناك أشخاصا مميزين تربطهم علاقة مميزة في مسار زماني طويل أو قصير في مكان له رمزية. اللقاء الأوّل كبيت هو فاتحة قصيدة طويلة، أو قل هو حرف استهلال في جملة طويلة معبرة، لذلك يكون للقاء الأوّل شعرية مهمّة تصنعها اللغة إن انخرطت في وصف هذه اللحظة الفاتحة وعادة ما تصنعها عناصر مقاميّة ثقافية دخلت إلى الذاكرة الحافظة وسُجلت فيها بماء الذهب.
في رسائل العشاق يمكن أن تجد حديثا عن اللقاء الأول، ويمكن ألاّ تجده. حين يحضر الكلام عن اللقاء الأوّل نكون إزاء شاعرية للتأسيس قد تكون الصدفة العنصر البارز في نسج خيوطها. وحين لا تحضر عناصر اللقاء الأول يمكن أن يعاد بناؤها لدى من يسأل كيف كانت البداية؟ الصدفة في اللقاء الأوّل معنى شاعريّ عظيم فقد تكون شيئا مرتبطا بالغيب، أو بتدافع الظروف للقاء؛ الصدفة في معناها البسيط أن يلتقي جسدان وذهنان ووجدانان غريبان في مكان مألوف، أو غير مألوف في زمان يفترض أن يكون قد جلب الطرفين إليه لأسباب واحدةدون قصد، أو لأسباب مختلفة.
الذهنان خاليان في عالم كلّ في فلك يسبحون. لا توجد في الذاكرة صورة لذلك الجسد، ولا لتفصيل منه وفجأة ولقادح ما وقتها، أو في وقت لاحق تنشأ العاطفة التي تعود إلى كل شيء لتستوعبه. شعرية الصدفة فيها ركن أساسي يصنعها: هي إنشاء بالارتجال. الارتجال يكمن في أنك كنت أنت بلباسك ذاك الذي لم تلبسه لتلقاها، وأنها تكون جميلة لأنها كانت ستلقى العالم بلا تحديد شخص فيه، وربما ستلقاه وأنت فيه استثناء ممكن. شعرية الارتجال أنها حين قالت لك: أهلا أو حين نظرت إليك أو حين تخاصمتما، لم تكن تحفظ نصّا مسبقا، أو تلعب دورا قد حفظته سابقا. ربما كانت شعرية الارتجال أنك بدأت بالنسبة إليها عنصرا من الإكسسوارات التي تملأ العالم ثمّ أصبحت في ما بعد شيئا عضويا قبل أن تخلقك العاطفة وتسويك بعد هذا كلّه ذاكرة سويّة.
لي طمع وأنا أقرأ بعض رسائل العشاق من الأدباء، في أن ألقى فيها شيئا من الحديث عن البدايات يشبه حديث جميل حين قال لبثينة: (وأوَّلُ ما قادَ المودَّةَ بيننا *بوادِي بَغِيضٍ، يا بثيْنَ، سِبَابُ). غير أنّي لا أجد شيئا منه مذكورا. في الشعر الجاهلي، لا يتحدث الشعراء إلاّ نادرا عن اللقاء الأول، هم يتحدثون عن رماد تُرك بعد الغياب، أو عن بعر الأرآم بعد أن غادر الأنام هم يعظمون الغياب ويتصاغرون عند الحضور وهذه شعريتهم وليست عادتهم.
صار لديّ كل شيء وظلّ لديك كل شيء. لا غرابة من أن النجوم في السماء هي التي يمكنها لوحدها أن تبث أشعتها باستمرار، دون أن يخبو نورها. لقد كان العام الذي يرحل الآن حزينا. فقد مات نصف من قلبي.
سوف نتحدث عن غياب ذكر اللقاء الأول في رسالة الكاتب الفرنسي فيكتور هوغو (1802 – 1883) Victor Hugoإلى عشيقته الأديبة الأريبة جولييت درواي (1806-1883) Juliette Drouet يقول في رسالة يعود تاريخها إلى 31 ديسمبر/كانون الأول 1851: «ملاكي الحبيب، ها قد آذن العام بالرحيل، لقد كان عامَ الألم وعامَ الكفاح، بلْ عامَ التجارب. ليكن العامُ الذي هلَّ هلالُه، عامَ الأمل والفرح والحبّ. لا يداخلنّك شكٌّ في ذلك، لأنّ قلبي بصرحه الكامل هو الذي يخبرني بهذا الأمر. أنا مُبعدٌ، مَنفيٌّ، مُفْرَدٌ، معزول عن أهلي، فقيرٌ، تائهٌ، الرماح منشبة في قلبي، ومع ذلك، فأنا عندما ألجأ إليك، يبدو لي أنني أرى الربَّ الطيّب يبتسم لي. لقد كنتِ رائعة يا جولييت في تلك الأيام المظلمة والقاسية. إن كنتُ احتجت الشجاعة، منحتني إياها، لكنني كنت أحتاج الحُبَّ، وأحتاج أن أكون مباركًا، فأحضرت لي من ذلك نصيبا! عندما كنت أسمع في الصباح وفي خلواتي المحفوفة بالمخاطر دائماً وبعد ليلة من الانتظار، أن مفتاح بابي يرتجف تحت يدك، كنت أنسى كلّ شيء. تنقطع عني المخاطر وتزول كل ظلمة من حولي، كان الضوء يدخل! دعينا لا ننسى أبداً تلك الساعات الرهيبة والرائعة عندما كنتِ بالقرب مني في فترات النضال! دعينا نتذكَّرْ طيلة حياتنا تلك الغرفة المظلمة الصغيرة وتلك المفروشات القديمة، وهاتين الأريكتين المنصوبتين جنبًا إلى جنب، ونذكر ذلك الطعام في ركن الطاولة، ذلك الدجاج البارد الذي تحضرينه، وتلك الدردشات الرقيقة، ومداعباتك، ومخاوفك وتفانيك دعينا نذكرها جميعا! كنتِ تتفاجئين بهدوئي وصفائي. هل تعلمين من أين يأتي هذا الصفاء وهذا الهدوء؟ إنك أنت مصدره. ألا ترين معي أن الرب إذ عاقبنا لم يعاقبنا العقاب الشديد، صحيح أنّه ألقى بنا ههنا، لكنّه ألقى بنا معاً. تقدّست أيّها الربّǃ
في هذه السنوات التي مرّت وللأسف بسرعة، أنفقتْ روحك كنوزا من الحنان والإخلاص والوفاء والفضيلة؛ ومع ذلك فإنّ هذه الروح الجميلة هي الآن أغْنى من أي وقت مضى. أعطتني عيناك كثيرا من الابتسامات، ومنحني فمك كثيرا من القبلات، ومع ذلك فإن وجهك الجميل هو الآن أكثر نضارة وشبابا من أي وقت مضى. لقد أعطيت كل شيء واحتفظت بكل شيء.
صار لديّ كل شيء وظلّ لديك كل شيء. لا غرابة من أن النجوم في السماء هي التي يمكنها لوحدها أن تبث أشعتها باستمرار، دون أن يخبو نورها. لقد كان العام الذي يرحل الآن حزينا. فقد مات نصف من قلبي. أواه! كم كنت لطيفة معي في تلك الساعات من الألم! جزاك الله عني ألف خير وبارك فيك! إن حبك يا ملاكي ليشبه الفضيلة. أنا أتطلع لرؤيتك الليلة ولا صبر لي أكثر على لقائك. يبدو أن دقات قلبي ترغب في تسريع نبض الساعة للوصول إلى هناك بشكل أسرع. عندما لا أكون أكثر من رماد متجمد، وعندما تُغلق عيناي المتعبتان على نور النهار، قولي لنفسك، إذا كانت ذاكرتي ثابتة في قلبك: لقد كان نصيب العالم منه عقله وكان نصيبي منه عشقه».
ليس في هذه الرسالة حديث عن اللقاء الأول، بل فيها حديث عن اللقاء الذي تكرّر حين كان الحبيب في ضائقة سياسية وصحية. لكنّ في النصّ حديثا عن لقاء أوّل من نوع خاص، هو أنّ الله حين ألقى بهما في الأرض، مهبط العذاب، ألقى بهما معا. هو لقاء أول أريد به العقاب والرحمة في آن واحد. أن تلقى نفسك وقد رمي بك إلى من الجنة إلى الأرض وحيدا فذلك عقاب، أمّا أن تلقى معك في ذلك اللقاء الأول امرأة بحجم عاتيات التضحيات وعاليات الهمم وبعطاء لا ينضب ولا يزول فذلك منّة وفضل عظيم. لقاء كهذا شعريته ليست في أن العشيقين كانا رفيقين في عالم العقاب، بل إن أحدهما ظل منعزلا مقعدا مبعدا مهجرا والثاني هو من ظل يرعاه ويعمل من أجل خلاصه واشتداد عوده. أن يرتعد المفتاح وهو يعالج فتح الباب من أجل استعادة اللقاء الأول بأن يعاد لقاء جديد، هو أصل آخر من أصول شعرية اللقاء لكنه لقاء يطلب وليس لقاء الصدفة وعدم الميعاد.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية