لما كان الراحل معمر القذافي، الثائر الأوحد صاحب الشأن بليبيا العزيزة، كان يقود شعبه بمنطق ‘ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد’، فلقد أعلنها صراحة أن ما يراه حسن، فهو عند الجماهير حسن، و ما يراه سوءا فهو عند الجماهيرسوء، وإذا ما حصل أن اعترض على إرادته أو نظرته شخص أو مجموعة، لم يتوان عن محاصرتهم وتصفيتهم، هذا هو خلاصة فلسفة ثورة الأول من أيلول/سبتمبر، وأول القوانين للعزل السياسي في الوطن العربي، ثم جاء بعد ذلك موعد ليبيا بثورة ثانية، ثورة 17 فبراير، لتحرير الشعب من ثقل الطغيان والأحادية، إلى بحبوحة المواطنة والحرية والرقي، فأسقطت الثائر ليستلم زمام الدولة الليبية الجديدة، ثوار جدد ليتحملوا مسؤولية قيادة الشعب. ولكن أخشى ما يخشاه المراقبون أن ما كان يرتكب باسم ثائر واحد، صار يرتكب من طرف ثوار عديدين، وأن الشرعية الثورية الزائلة استبدلت بشرعية ثورية أخرى، ما ترى لشعبها إلا ما ترى، وما تهديهم إلا سبيل الرشاد، وبدل أن يحتكم الثوار إلى الميكانزمات الديمقراطية أو السياسية والكفاءات العلمية والعملية، ويغتنموا الهيئات المنتخبة، لتمرير سياساتهم أو رغباتهم، يلجأون إلى وسيلة فرض الأمر الواقع بقوة السلاح، في كل صغيرة أو كبيرة لا تروق لهم بحجة تنافيها مع مبادئ الثورة، كتعيين شخصية سياسية مارست المسؤولية في فترة من الفترات، أو تولي مسؤولين سابقين في نظام القذافي مهام تتطلبها ديمومة الدولة الحديثة. وهنا نأتي للتكلم عن قانون ‘العزل السياسي’، الذي لم يوجد له مثيل في العالم إلا في أمريكا مع ظهور المكارثية في 1950 مع صاحبها عضو مجلس الشيوخ الأمريكي جوزيف مكارثي، الذي ألبس إرهابه الثقافي لبوس الوطنــــية والوقوف ضد عملاء السوفييت الشيوعييــــن، إلا أن المشروع الذي ولد وفي طياته ذرات الفناء، لم يستــمر إلا بضع سنين، حيث ألغيت الملاحقات، و أسقطت التهم التي كانت في غالبيتها لا تنبني على أساس ذي مصداقية أثناء عام 1954، كما أن هذا القانون له شبيه وحيد في العالم العربي، وهو قانون اجتثاث البعث بالعراق، وخلاصته هو إقصاء كل من مارس مسؤولية في حزب البعث على مستوى صغير او كبير. الوضع السياسي المتوتر الحالي في العراق، والتراجع السريع عن المكارثية بأمريكا، أكبر دليل على فشل القانون هنالك وفي أي بلد يستلهم الأسوة بهما، فهو ناهيك على أنه قانون لا يحترم حقوق الإنسان، فهو يكرس التفرقة والشحناء في المجتمع بدل نهج الاتحاد والمصالحة مع المصارحة، للتحول من حالة الحرب إلى السلم الداخلي الدائم، الضروري لنمو البلد. لو كان هؤلاء المسؤولون قد ارتكبوا جرما ما، فعلى القضاء العادل النزيه أن يحاسبهم، وإلا لا يحق لأحد أن يمنعهم من حقوقهم المدنية والسياسية، ثم إن الخروج من حرب أو نزاع دموي، يستوجب التسامح وتجاوز الجراح رغم الامها حتى لا نعطي فرصة لاستعار نار الفتن في البلد، هؤلاء المقصون وحلفاؤهم و أحبابهم، سيحسون أنهم على هامش الدولة، وسيحسون بأنهم مطرودون من حقهم في ممارسة سلمية لأدوارهم. ثم فرض القانون بقوة السلاح، سيوحي لآخرين أن يفرضوا آراءهم ورغباتهم بقوة السلاح أيضا، ربما ليس اليوم وليس غدا لأن ميزان القوة ليس في صالحهم، ولكن بعد مدة من الزمن من المؤكد، أننا سنجد من يفعل ذلك، أليس يقال:’كما تدين تدان’، ‘ومن سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها’. كان أولى بالمشرعين ‘السريعين’ لقانون العزل السياسي، أن يستلهموا من سياسة دولة افريقيا الجنوبية، وسياساتها التي ترتكز على المصارحة والمصالحة، أو أن يفرقوا بين سلوك المسؤول ومنصبه، فليس كل من مارس مسؤولية ما مدانا، وليس كل من ثار بريئا وشريفا، الأفعال والأخلاق والممارسات، والصدق والعدل أكبر قانون للعزل البشري’. عبد الكريم رضا بن يخلف ـ كاتب صحافي [email protected]