؟الليدي ديانا (1961 ـ 1997)، أميرة ويلز السابقة، تعود إلى الذاكرة الجمعية، الكونية كما يصحّ القول، وإلى احتلال عناوين الصحف، وانخراط الحشود في شغف الفضول والتقصي وربما بعض التلصص أيضاً. ليس من باب ذكرى رحيلها هذه المرّة، أو حتى بسبب الموسم الرابع من مسلسل «التاج» شاغل الدنيا ومالئ الناس كما يبدو؛ بل، ببساطة يتوجب أن تثير الدهشة حقاً، في مناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لبرنامج «بانوراما»، الأشهر في تاريخ الـ BBC كما يُجمع الكثيرون، الذي بثته المحطة يوم 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 1995، وتضمن حواراً مع الليدي ديانا أجراه المذيع مارتن بشير.
ذلك البرنامج كان محطة فاصلة في حياة الأميرة، مسّ أيضاً بعض الثوابت المعنوية والأخلاقية الكبرى للعائلة الملكية في المملكة المتحدة، إذْ لم تكتفِ الليدي ديانا بالحديث عن خصوصياتها في مسائل الحياة الزوجية والعائلية والصحية والغرامية، وعدم صلاحية زوجها الأمير شارلز لشغل منصب الملك؛ بل كشفت أيضاً علاقة الأخير بعشيقته كاميلا باركر باولز، وعلاقة الأميرة ذاتها مع الضابط في الجيش جيمس هويت (وقد اشتهرت عبارتها في اختصار المشهد: «كنّا ثلاثة في هذا الزواج، وهو ازدحام بعض الشيء»). تداعيات الحوار لم تتأخر، وكان طبيعياً أن يُتوّج بالطلاق، ليس كنتيجة حتمية لأشهُر من الخصام بين أمير ويلز وزوجته، بل كذلك بناء على أمر من الملكة إليزابيث شخصياً.
ليس ثمة تناقض شديد، بمعنى التباعد في المغزى أو التضارب في الوظيفة، بين ملايين الحشود التي تابعت حفل زفافها، والملايين من حشود أكبر عدداً وأكثر تعدداً تقاطرت إلى جنازتها
وإذْ ثارت تساؤلات مشروعة في الصحافة البريطانية حول كيفية نجاح بشير والـ BBC في إقناع الليدي ديانا بإجراء هذه المقابلة الديناميتية، أعلن مصمم غرافيكي في المحطة أنّ بشير طلب منه تزوير بيانات مصرفية عن أموال صُرفت لعدد من موظفي القصر بهدف التجسس على الأميرة، وذلك لإقناعها بالموافقة على لقاء المذيع والتحدّث إلى «بانوراما». وبالفعل، عرض بشير البيانات على شقيق الليدي ديانا، شارلز سبنسر، الذي اقتنع بصحتها وقدّم المذيع إلى الأميرة، وأُجريت المقابلة. يومذاك، عند افتضاح هذا التفصيل، باشرت المحطة تحقيقاً داخلياً في سنة 1996 ترأسه توني هول، الذي سوف يصبح المدير العام للمحطة لاحقاً؛ خلص مع ذلك إلى براءة بشير، الذي لم يعرض البيانات على الليدي ديانا نفسها، عكس ما تردد يومذاك من أنها اطلعت على بعضها.
الذي استجدّ اليوم أنّ الشقيق سبنسر، وفي مناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لبثّ «بانوراما»، عاد إلى المطالبة بفتــــــح تحقيق جـــــديد أكثر شفافية، لأنّ تحقيق الـBBC السابق لم يكن كافياً وشابته مخالفات تكفلت ببراءة المذيع والمحطة.
ولا يخفى أنّ الضاغط الأوّل وراء اضطرار المحطة إلى الاستجابة لإلحاح الشقيق، والعهدة برئاسة التحقيق إلى قاضٍ سابق في المحكمة العليا، كان موقع الليدي ديانا في الضمير الجمعي البريطاني، والكوني كما يساجل كثيرون، وجماهيريتها الكاسحة الراسخة لدى شرائح واسعة من حشود متعددة عابرة للطبقات والعقائد والجنسيات والأهواء. وهذه الحال ليست ظاهرة ثقافية أو سياسية أو إعلامية، أو حتى صيغة قصوى من أعراض «مجتمع الفرجة» كما ناقشه بعمق المفكر الفرنسي غي دوبور في كتاب شهير حمل العنوان ذاته، فحسب. ثمة هنا دلالات أنثروبولوجية ملموسة العناصر وجلية المعطيات، تبدأ من إشكاليات الانتماء إلى العائلة الملكية عبر محتد غير ملكي في الأصل، وهذه كانت حال الصبية ديانا فرنسيس سبنسر التي اقتحمت قصر بكنغهام في سنة 1982 من بوّابة ضيّقة هي الحبّ الدنيوي، أو غير الإمبراطوري كما يجوز الافتراض؛ ولا تنتهي عند إشكالية من طراز آخر، هي أقدار انقلاب هذه الصبية، «الدخيلة» على أكثر من نحو، إلى «أميرة القلوب» و»القديسة داي»، قبل استحقاق لقب «صاحبة السموّ» المألوف والطبيعي.
وبمعزل عن صحّة اتهام الشقيق سبنسر لمحطة عريقة مثل الـBBC باللجوء إلى أساليب الصحف الصفراء، إذْ قد يصحّ بالفعل وسم الملابسات التي اكتنفت ضمان إجراء المقابلة بهذه السمة الهابطة، لجهة تزوير البيانات المصرفية على الأقلّ؛ فإنّ الجوهري الأبرز في استعادة الحكاية اليوم قد يكون أنها تعيد التشديد على بواعث التعلّق الجماهيري الأسطوري بشخصية الليدي ديانا، حتى بعد 23 سنة على رحيلها الفاجع، في حادث السيارة الشهير اسفل أحد جسور العاصمة الفرنسية باريس. وليس ثمة تناقض شديد، بمعنى التباعد في المغزى أو التضارب في الوظيفة، بين ملايين الحشود التي تابعت حفل زفافها، والملايين من حشود أكبر عدداً وأكثر تعدداً تقاطرت إلى جنازتها. كلّ هذا بصرف النظر عن مهارات الليدي الذاتية في استجرار افتتان الجموع على صعيد الصورة تحديداً، بوصفها التتويج الطوطمي الأقصــــى لهذه العقود الحداثية وما بعد الحداثية.
كيف تُنسى بسهولة، إذن، تلك اللقطات التي تُبرزها وهي تحتضن مريضاً مصاباً بالـ«إيدز»، أو تسير ببسالة في حقل ألغام مضادة للأفراد، أو تزور مشفى لعلاج سرطان الثدي، أو تحمل طفلها على ظهرها كما يمكن أن تفعل أيّ أمّ عادية، أو تقبّل زوجها الأمير (الرصين، ثقيل الظل) على ملأ من رعيته والعالم! وإذا صحّ أنّ موقع الأيقونة، الذي شغلته الليدي ديانا بيُسْر مذهل، قد استقرّ عميقاً في أكثر من وجدان جمعي حاشد؛ فكيف تكون الحال إذا اقترن الموقع بحسّ الحكاية المتكاثرة والسردية المستدامة، التي تحكم اليوم سلوك شارلز سبنسر والـ BBC معاً، على نحو عجيب من التكافل والتضامن!
/ولا يخفى أنّ الضاغط الأوّل وراء اضطرار المحطة إلى الاستجابة لإلحاح الشقيق، والعهدة برئاسة التحقيق إلى قاضٍ سابق في المحكمة العليا، كان موقع الليدي ديانا في الضمير الجمعي البريطاني […]، وجماهيريتها الكاسحة الراسخة لدى شرائح واسعة من حشود متعددة عابرة للطبقات والعقائد والجنسيات والأهواء/..
أولا، ديانا لم يكن لها أية مكانة تُذكر على المستوى “الجمعي” /الذي تكرر كثيرا في المقال/، لا في الذاكرة “الجمعية” ولا في الضمير “الجمعي” ولا حتى في الوجدان “الجمعي” /في بريطانيا أو أوروبا،
/بقية الكلام/..
ثانيا، الضاغط الأوّل والأخير وراء اضطرار إذاعة الـ BBC إلى الاستجابة لإلحاح الشقيق، من ثم، والعهدة برئاسة التحقيق إلى قاضٍ “نزيه” سابق في المحكمة العليا، ليس له مساس بأية سمة من سمات هذه “المكانة” الوهمية المذكورة قبلا /في البند الأول/، بل له مساسٌ جدُّ وثيق بأولئك الحشد من “الأعداء” في العائلة الملكية نفسها، وعلى الأخص حين أعلنت إليزابيث عن تنحيها بسبب شيخوختها /وربما خرفها/ لابنها تشارلز /المجرم في الخفاء، والوديع في الجهار/.. !!