«الماء من لوّن الإناء»… استدراك التداخل في رواية «موت الأم»

حجم الخط
0

رواية «موت الأُم» تقابل مقولة (موت الأب)، أي أنهما يتداولان الصراع العام خلال مجريات الصراع الخاص. بمعنى العبور من الأُسري إلى الاجتماعي والسياسي. فموت الأب يُحيل إلى سلطة الأُبوة (البطريارك)، بينما موت الأُم يستدرج الأُنثوي المخصب للحياة، تحت تأثير المتسلط (الذكورة) باتجاه فضح السلطة المتحكمة بالكيان الأُسري، وبالتالي تكون الإحالة إلى الناتج العام، وفق تفكيك التسلط الاجتماعي والسياسي.
فالرواية هنا حذرة جداً من الوقوع في المباشر، بقدر ما تماسكت أحداثها وبناها الداخلية وتبئيراتها المتعددة، للمحافظة على وحدة النص فنياً وموضوعياً.هذا التماسك والوحدة الفنية ذهب بها إلى التوجه السردي نحو تحليل البنية المشكّلة للشخصيات كل على انفراد، بدون فرز هذه الشخصية أو تلك بتقنية تنتمي إلى وحدات السرد مثل (رواية متعددة الأصوات). وهي فعلاً كذلك، لكن الحنكة الفنية هنا جاءت من منطلق تداخل موضوعي وفني، حيث يُعلن عن الصوت ولا ينفرد به. بمعنى تداخل الأصوات وتواليها للإمساك بالسرد، قصد إغناء وتطور حدث الرواية المركزي، نراها فيها تقنية ذاتية بحتة، أسست معمارها وتشكيلها على مبدأ الانضباط الذاتي فقط، وترك الإحالة مضمرة تتطلب الاجتهاد في القراءة.

العتبات

«موت الأُم» عتبة تختلف جذرياً عن (موت الأب) كما ذكرنا، ذلك متأت من متعلق البنية الذاتية للأُم، حيث يكون ذكرها الجامع لخصائص متعددة لا يختلف بشأنها اثنان. فالأُم كيان تترشح منه باستمرار صفات وأفعال ترتبط بتشكيل العلاقة بين الكائن الأصغر والآخر الأكبر، ويصح العكس. فهي بئر لا ينضب منه الماء، فكيف بموتها؟ هنا تتحقق المعادلة التي بنت الرواية ذاتها على كفتيها، ما خلق موازنة بين كفتين، تتخللهما المعاني المتحققة، سواء داخل كيان الأُم، أو ضمن العلاقة بين ثنائية (الأب + الأُم).
أما عتبة الأهداء، فقد انقسمت إلى مقطعين مستقلين بذاتهما. فإذا كان الأول (إلى ليلى)، فهو معني بالكيان الإنساني (المرأة) التي كُنيتها (ليلى) مجردة وغنية بترشيح معانيها الكبيرة والواسعة، بينما الثاني (إلى روح ليلى) فهو معني بالمعنى الذاتي (الروح) التي حققت صورتين صافية (الأُم ـ الزوجة) وذات شوائب (الأب ـ الزوج)، وهو ينعكس على ما يقابله الأب أو الزوج في الرواية. إن عقد المقارنة الخفية بين القصدين، تؤكده أحداث النص الذي يميل إلى (سيرة الأُم ـ المرأة ـ الزوجة) دون سيرة (الرجل ـ الأب ـ الزوج)، وإن كان لسيرته طغيان في الرواية. لكن ما نُريد التأكيد عليه؛ هو المسار الإنساني لدى الصوت الذي صاغ الرواية، وهو صوت (رأفت) الابن. من هنا نجد أن العتبة هذه مزدوجة القصد.

وجد الكاتب إن (برودة الشمس، وجفاف البِركة، وموت العشب الأخضر، وموت السمك في الأنهار التي كانت) تحقيق للمعنى المراد في النص.

في عتبة المستل، وهو مقطع من قصيدة للشاعر فروغ فريغزاد المعني بما خلّفه رحيل الأُم أو الكيان المؤثر في ذات الكاتب، حيث انعكس عليه قول الشاعر عبر بلاغة الشعر. وهذا تم تحت سلطة القراءة القائلة (نحن نؤكد فهم ما نقرأ وفق تركيبتنا النفسية). لذا وجد الكاتب إن (برودة الشمس، وجفاف البِركة، وموت العشب الأخضر، وموت السمك في الأنهار التي كانت) تحقيق للمعنى المراد في النص. وهنا يتم المعنى المركزي الذي تتكئ عليه الأرض في استقبال أجسادنا، وهو الماء كمتشكل أول للوجود. الذي صاغه سردا لتأكيد المعنى العام في النص، هو فقدان طبيعة الصلة بين الأحياء، والقصد هنا العلاقة المنطقية ـ الإنسانية بين كيانين (الزوج + الزوجة) في أحداث الرواية، كما سنقرأها. إن الكاتب توارى خلف حراك عام ومشتبك، من أجل تصفية لغز الصلة، ونمو مفاصلها، والوصول بها إلى هدف مركزي، بدون شعار أو إعلان ضوئي مباشر. وهذه خاصية تُحسب للكاتب ليس في هذا النص، إنما في نصين قراناهما له، هما «المنعطف»، «تأريخ العائلة».

مسار النص وحراك وحداته

بؤرة النص تنطلق منذ البداية، بعد موت الأُم، أي التبئير المتوجب حصوله بعد تصاعد الصراع داخل مجريات الرواية، كما حصل في مفتتحها، وهو انتهاء الشعيرة (مراسيم العزاء) على رحيل الأُم. هذه البؤرة من فتح أُفق النص بدربة سردية متمكنة، أي الذي حصل؛ هو الشكل البنائي الذي حفّز الذاكرة لتتصفح سيرة العائلة ضمن استذكار الابن (رأفت). إذ نجد في ذلك إمكانيات تشكيل سعة سردية من نقطة قد لا تجد عند سارد غير موهوب مرتكزاً لها. لكنها في رواية «موت الأُم» اتسعت وفق الإمكانية الذاتية، التي مكنتها الدربة السردية من خلق عالم أكثر اتساعاً، عالم مقنع موضوعياً وفنياً. وهو بالتالي فعل روائي مكننا من اكتساب درس معني بالكيفية التي تحوّل السيرة الذاتية إلى عمل إبداعي (رواية). وهي بتقديرنا مهمة ليست سهلة بمقاييس ما أتى به النص. أي المحاذير من الوقوع في إغواء أحداث السيرة. الأمر الذي حوّل الأحداث إلى تراص سردي، والعبور به من دلالته الأُسرية إلى دلالته الاجتماعية والسياسية. وهنا مكمن التميّز في النص.
النص توافق مع شخصيات مركزية فاعلة مثل (عبد الغفور/الأب، ليلى /الأم، رأفت وآمال/الأخوين) مقابل (أُم سمير/ الجارة، سعاد/ وكلاهما عشيقتان للأب، والأولى للابن أيضاً). كانت المجموعة الأُولى تتحرك ضمن حيّز الأُسرة المتماسكة تاريخياً، والمفككة أخيراً. والثاني من حوّل تاريخ الأُسرة إلى مركز القلق والتشتت، على الأقل من وجهة نظر الأُم (ليلى)، التي لا تؤمن بمقولة (تعدد الزوجات… مثنى ورباع )، فهي حاملة لحساسيتها المفرطة، والشاعرة بما يُهدد كيان وتاريخ الأُسرة. وبهذا حصلنا على صراع وجود في الأُسرة التي تتحمل صراع الوجود الاجتماعي ككيان عام. الصراع هنا بني على أُسس منطقية وديالكتيك منتظم، يخضع للسبب والنتيجة. بعيداً عن الإنشاء في التعبير الذي يقع في أحبولته الكثيرون، خاصة تركيب لغة السرد التي لا توائم مبنى الشخصية، وطبيعة تصعيد صراع المحتوى. إننا خلال الرواية أمام جدلية أُسرية، تسير بالمعنى في حياة الأُسرة من التماسك إلى التفكك. وهنا تكمن الدلاة الاجتماعية والسياسية. إن التركيز على مشاعر الأُم(الزوجة)، يعني التأكيد على أدق الانعكاسات المؤثرة. فهي تتحسس المتغيرات على وجود الزوج خلال العطر الذي يضعه يومياً. ثم تعدد ماركات تلك العطور التي تدل على ذوق نسائي رفيع. من هنا بني الشك الأنثوي على حقائق حسية، لها جذر واقعي. وهو نوّع من المعالجة النفسية، والتأكيد على السرد الذي يُحلل بنية الشخصية الذاتية ويفككها بما يخلق فرشة تحليلية. فبتوالي عناصر الشك ( المظلة النسائية، العطور، تزيّن الزوج المفرط)، كل هذا ساعد على نهوض الشك وتصاعده، بما ولّد قناعة على الخيانة الزوجية. فالمؤلف عمل على البناء لتدريجي(النفسي) للوصول إلى القناعة، بتحويل الشك إلى يقين، ومن ثم إلى شاهد دلالي واسع القصد والمرمى (عجبا.. أيمكن أن يصبح العطر معاديا للنفس كهذا الذي أُحسه في هذا العطر؟) هذا السؤال يقود إلى تصوّر سيادته كشاهد من باب دلالته الوجودية (إنه دخل غرفة نومنا، واستلقى على فراشنا، وتناقلناه على أجسدنا).
هذه التركيبة من التعبير تؤكد على إعطاء السبب والنتيجة أهمية في البناء السردي. كما تؤكد على يقينية الشك، خلال جملة علامات التغيير الذي حصل لشخصية الزوج، كالسهر وتناول الطعام خارج البيت. هذه المقاساة النصية ساعدت على التصعيد، وخلق تبرير منطقي ليس على تمرد الزوجة، بل لاعتبارات تخص طبيعة الشخصية، التي آوت إلى العزلة كنوع من بداية مرض صعب علاجه إلا بالموت. إنه نوّع من جلد الذات بسبب الخيبة التي حصلت في حياتها. إن عدوانية العشيقة (سعاد) لليلى، أسفر عن تراكم يخص العطر. بمعنى كان وسيلة دالة على ضاغط واسع التأثير.

الرواية اعتمدت الكيان الأُسري مداراً لها، لكنها في الدلالة الأبعد معنية بالتشكيل العام للواقع. لعل وجود (خالد) الذي ينتمي إلى العائلة بصلة صداقة، هو الدالة على هذا المحوّر.

(لم يتبادر إلى ذهن سعاد أن أنفاس ليلى، ستظل مشبعة بذلك العطر الذي انداح من بين أعطافها يوم لفائهما، ذلك الذي لم يمض عليه سوى ايام).
إن ما يضع الرواية المعتمدة على مستويين من السرد ضمن تصنيف جدلية البناء؛ الأول: استذكار(رأفت). والثاني: فسح السرد مجالاً لأصوات تستكمل مجرى الأحداث المستدعاة من الماضي والماضي القريب، بدون الوقوع ـ كما ذكرنا ـ في تصنيف رواية متعددة الأصوات. فالأصوات هنا سرديات تنوّع وإغناء لأحداث النص. وهي أصوات متناغمة مع بعضها في وجهة النظر، لأنها القريبة من السيرة الأُسرية، بالتالي من هدد وجودهم الأُسري والاجتماعي. لذا نجد في جهد المؤلف دقة في ربط الأحداث، وكأنها انتظمت وفق رؤى سارد كلي العلم، بسبب التناغم السردي.

من المحدود إلى المطلق

 في سياق ما تقدم؛ إن الرواية اعتمدت الكيان الأُسري مداراً لها، لكنها في الدلالة الأبعد معنية بالتشكيل العام للواقع. لعل وجود (خالد) الذي ينتمي إلى العائلة بصلة صداقة، هو الدالة على هذا المحوّر. فهو شاب عراقي مهاجر بسبب انتمائه السياسي، له وجهة نظر، كما للمحيطين به ذلك، خاصة (رأفت).علماً أنه ما عاد إلى البلد إلا من أجل البحث عن مدوّنة، حيث تتبيّن أنها وثيقة عامّة معنية بالتاريخ العراقي (تاريخ البلدة). فـ(رأفت) بحاجه من باب معرفته بتردي الواقع (أنت يا صديقي تركت بلدك الثاني الأخضر، وجئت تبحث عن المدوّنة وكاتبها، فما الذي تراك ستجد فيها، وما سوف تراه يحدثك به عنها؟). ويستطرد للكشف عن محتوى المدوّنة المفترضة، مستعرضاً تاريخا متسلسلا من الخيبات والموت والمصادرة (أليس عن شباب سيقوا وقوداً إلى حروب، ورجال قُتلوا علناً وغيبتهم السجون، وآخرين سيقوا إلى أماكن سرية أو دفنوا أحياء.. عن شوارع مخربة وطرق ملتوية تعشش في خفاياها أوبئة وأمراض مستوطنة وجرائم منظمة في بهمة الليل كما في وضح النهار).
هذه الاستطرادات بمثابة جرس تنبيه للعائد إلى المدينة، باحثاً عن تاريخ منسي، سُلمت مدوّنته ـ يعني فيها هنا سيرة البلد ـ (المدوّنة كُتبت منذ التأسيس واستمرت. والمفارقة في الأمر أن كاتبها اليساري بعد أن شعر بانكشاف أمره سلّمها لغيره.. وهكذا توالى عليها الرجال والحكايات، لترسو لدى ماهر الإسلامي.. ففي مدينة مثل مدينتنا تقوم أشياء وتموت أشياء بمنطق وبغيره. وسرها أنها تمشي مثل سفينة عاتية البنيان لا يقهرها موج ولا تفض أسرارها ريح ).
هذه الخاتمة جاءت بعد أن قفلت خيمة العزاء بوجه المعزين، وكأن موت الأُم هو موت المدينة. وما جواب (رأفت)، إلا الوصول إلى دلالة المحتوى (فبموت ماهر انقطع الخيط / وأغلب الظن أنه قٌتل تحت التعذيب بسببها، فقد اختفت تماماً بغيابه.. عد يا أخي من حيث أتيت، أو ابق لتبدأ من جديد، فقد تبدلت الأدوار. الطريق شاق والضريبة عاتية). ثم يُقرّب الدلالة أكثر وبصوت تحريضي، لأنه اعتمد فعل الأمر (هدّوا ركام الخيمة، وأفسحوا الطريق للعابرين). وهذا ما أكد دليلنا على قناع الرواية كان (العزاء على فقدان الأُم)، وكل ما دار في النص، كان معبّراً للدلالة العامّة. وتلك تُحسب للمؤلف الذي أغرى القراء بحقائق ذات نبض أُسري واجتماعي، تمهيداً للعبور بهما إلى رؤى أوسع. نرى أن مثل هذه المداورة النصية، تدخل في صلب إنتاج نص مفتوح للقراءة. وهو شأن في الكتابة دأب عليه كبار الكُتاب، ولعلنا نؤكد ما للكاتب فيدور دستويفسكي من أثر في هذا التوجه، لأن نتاجه يحتمل الاجتهاد، طالما هنالك تطور رؤيوي للمعرفة، حيث تتسع العبارة والفكرة، بعد أن ينشط العقل. فتقييم النص مرتبط بتجدد الوسائل المعرفية ذات القدرة على تنشيط القدرة العقلية.

٭ حنون مجيد رواية «موت الأُم» منشورات أمل الجديدة 2020

٭ كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية