لم أشعر يوماً بوطأة الرقابة مثلما شعرت بها أمام قمع «فيسبوك»، الذي قامت إدارته بمحو نصين نشرتهما على صفحتي. الأول للأسير زكريا الزبيدي، وهو كناية عن مقال نشرته «مجلة الدراسات الفلسطينية» للأسير الزبيدي بُعيد عملية نفق الحرية في سجن جلبوع، والثاني هو مقالي «أين فتح»؟ الذي نشر في زاويتي الأسبوعية في «القدس العربي»، الثلاثاء الماضي.
شعرت بالإهانة، إذ يقوم جهاز باستغلال سيطرته على الفضاء الافتراضي لفرض رقابة عشوائية هدفها تشكيل جدار لحماية إسرائيل من النقد. وقد تفاقم هذا الشعور مع قيام أحد المواقع الإلكترونية الفرنسية، وهو موقع تقدمي، برفض نشر ترجمة لمقالي «الحوار المستحيل بين الذئب والحمل» (القدس العربي 10 كانون الثاني-يناير 2022)، بحجة واهية، وهي أنه لا يريد أن يكون طرفاً في النقاش بين رئيس معهد العالم العربي السيد جاك لانغ، والمثقفين العرب، حول معرض «يهود الشرق» وملامحه التطبيعية.
كما ترون، فإن المنع والرقابة في الغرب يمسان أساساً كل ما يتعلق بإسرائيل. فمنع الفلسطينيين والمدافعين عن الحق الفلسطيني من التعبير يهدف إلى حماية سمعة إسرائيل، وحجب الحضيض العنصري الذي وصل إليه اليمين الإسرائيلي الحاكم.
والطريف أن المنع والحجب لا يجرؤان على الاقتراب من الأصوات الإسرائيلية القليلة التي توجه نقداً لإسرائيل. فلم تمنع إدارة «فيسبوك» نصاً مأخوذاً عن الفيلم الوثائقي الإسرائيلي حول معركة قلعة الشقيف البطولية سنة 1982، ولم يجرؤ أحد على المس بإعادة نشر مقال آدم راز «هآرتس» 21-1-2022، حول فيلم المخرج الإسرائيلي آدم شوارز «الطنطورة»، الذي يلقي ضوءاً جديداً على أحد أكبر مجازر حرب النكبة عام 1948، ويكسر جدار الصمت الذي هشّم بحث تيدي كاتس الأكاديمي حول المجزرة، وقاد إلى استقالة المؤرخ الإسرائيلي الكبير ايلان بابيه من جامعة حيفا، ومغادرته البلاد إلى جامعة إكستر في بريطانيا.
المسألة شديدة الالتباس، فأمام العجز عن حجب الحقائق التي صارت مفضوحة، تتم اليوم محاولة إخراس الفلسطينيين. فالاعتراف الخجول بالتطهير العرقي المستمر يصاحبه منع الضحية من التعبير. على الشاهد أن يختفي من مسرح الجريمة، وبذا تجري حماية المجرم من تبعات أفعاله.
إنه قمع بمبضع جراحيّ، فالقامع يتستر بالقيم ويوزعها كيفما يشاء. لا أحد يشجب عنصرية جاك لانغ حين يقول إن المثقفين العرب كالأغنام، وفي المقابل فإن الإشارة إلى المقاومة، وهي حق شرعي للشعوب التي تعيش في ظل احتلال خارجي، يصير فعلاً إرهابياً!
قلت إنني أحسست بالإهانة، وهذا آت من تجربتي الكتابية والصحافية في بيروت. هناك لم تتعرض الكتابة للرقابة والمنع إلا في حالات استثنائية، (كمنع بعض الكتب والأفلام والعروض الفنية بإيعاز مباشر من المؤسسة الدينية)، ولم يكن القمع يطال حبرنا، لأنه اختصر الطريق وذهب إلى دمنا بشكل مباشر. فاغتيال الصحافيين وإعدامهم من نسيب المتني، إلى كامل مروة، إلى سليم اللوزي، وصولاً إلى سمير قصير، وظاهرة قتل المثقفين كحسين مروة ومهدي عامل ولقمان سليم، كانت تعني أن علينا أن نقايض حبرنا بدمنا، وهذا ما لم نفعله، لذا بقينا، رغم الخطر، في دائرة الحرية.
لكن الدائرة ضاقت بنا. انهارت بيروت ولم يعد المثقفون العرب قادرين على اللجوء إليها لمتابعة عملهم الثقافي، وصار عليهم الاختيار بين المنفى والسجن. والسجون في المشرق العربي هي أحد أشكال المقابر. اسألوا علاء عبد الفتاح في مصر، أو اقرأوا شهادات السجناء السوريين، أو تأملوا في مصائر المنفى الثقافي العراقي، وإلى آخره…
لم تعد الخيارات متاحة في زمن الهمجية الاستبدادية العربية. كأن فلسطين بنكبتها صارت ملخصاً لنكبات العرب بالمستبدين. وكأن نكبات العرب فتحت الباب واسعاً أمام المستبدين للقيام برقصة «اتفاقيات أبراهام»، التي هي محاولة لتحويل النكبة إلى حقيقة العرب اليوم.
النظام العربي الذي لا يحسن استخدام مبضع الجراح، على الطريقة الإفرنجية، في قمعه، فيلجأ إلى المنشار والساطور، هذا النظام اكتشف المرهم الكفيل بإخراس الأصوات، وإفراغها من المعنى.
بدل المبضع اخترعوا مرهماً مصنوعاً من المشتقات النفطية. ولعل البترو- دولار هو أهم هذه المشتقات على الإطلاق.
استخدم هذا المرهم في جبهتي الاستبداد، الاستبداد الذي يطلق عليه اسم «الأنظمة المعتدلة»، واستبداد «الممانعة». وما نشهده اليوم من تفوق كمي للاستبداد «المعتدل» ليس سوى نتيجة للحصار الاقتصادي الذي تتعرض له إيران.
جبهتا المرهم تعملان بلا كلل، إنه المرهم الذي يغطي الجرائم في سوريا ولبنان واليمن وإلى آخره… مرهم «ثقافي» يغطي الجروح العميقة بإعلام مزيف وثقافة استعراضية ولغو شامل.
من التلفزيونات إلى المنصات الرقمية، يجد المشاهد أو القارئ نفسه أمام احتفاء الدجل بنفسه.
ميزة هذا المرهم الجديد هو قلة الحياء، والكذب الذي يروج لنفسه بصفته كذباً.
هذا المرهم هو الوجه الآخر للقمع الدموي. وهو لا يهدف إلى إقناعنا بقدر ما يهدف إلى دفعنا نحو اليأس، فالكلام صابون الكلام. تنزلق الكلمات فوق الكلمات فتمحوها فيصير «كله عند العرب صابون»، كما يقول المثل الدارج.
بين مبضع الجراح ومنشار القاتل ورصاصه ومرهم الكلام، تجري محاولة سحق الثقافة العربية وإخراجها من المشهد.
مبضع الجرّاح الغربي يريد طردنا من العالم، ومنشار القاتل الإسرائيلي والعربي يسعى إلى إخافتنا وترهيبنا، ومرهم المشتقات النفطية يحاول تحويل المثقفات والمثقفين إلى مهرجين.
لكن ما فات آلات القمع كلها، أن الحق هو الوجه الآخر لحقيقة حياتنا العربية. لقد فات من يسعى إلى حجب الحقيقة أن حقنا في الحياة يستطيع أن يقاوم في أحلك الأزمنة وأكثرها صعوبة. فمن يسعى إلى إخراس صوت الحق سوف يجد أن الصوت لا ينطفئ، لأنه جزء من مقاومة الموت والدفاع عن الحياة.
لا المبضع ولا المنشار ولا المرهم كفيلة بإخراج العنصريين والمستبدين من حفرة الانحطاط.
كلمة يقولها أسير فلسطيني، ونص يكتبه سجين عربي، وصرخة جائع في بيروت ودمشق، وتنهيدة العربي في اليمن، كفيلة بجعل هذا الجدار يتداعى.
نعم هذه مشكلة معقدة في الولايات المتحدة واروبا. ان اي انتقاد للمعاملة غير الانسانية الاسرائيلية للفلسطينيين امر مرفوض. علينا الاستمرار ومناشدة الضمير العالمي لوقف الممارسات الاسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني.
” لم أشعر يوماً بوطأة الرقابة مثلما شعرت بها أمام قمع «فيسبوك»، الذي قامت إدارته بمحو نصين نشرتهما على صفحتي. ” إهـ
ما هو الحل يا أستاذ؟ وماذا تقترح؟
الصين لها فيسبوك خاص بها, فهل هذا حل ناجع لنا نحن العرب؟ ولا حول ولا قوة الا بالله
صباح الخير والفل والورد والياسمين أخي الياس خوري. يصعب أحيانا على زكربيرغ الفيسبوك أن يتقبل تعليق ينتقد إسرائيل فما بلك بمقال ياأخي الياس. والحق يقال أن أصوات أصحاب الضمير من فنانيين وأدباء وكتاب وعلماء في هذا العالم مازالت عالية وتشجعنا وتعطينا الأمل. المنع بقناع القيم الذي أصبح مجرد عنصرية وفوقية غربية ممزوجة بالعنصرية الصهيونية.، وفي المقابل استبداد بشع وقمع وإجرام وتطبيع ومقاومة.أليست هذه حكاية المطرقة والسندان. أملنا أن تعود بيروت وعندها سنلتقي يومًا أخي الياس وسنتحدث عن الماضي والحاضر والمستقبل وكلنا أمل في هذه الحياة.