ليس ثمة داعٍ للتعجب، إذا ازداد اليوم أثر تلك النظريات التي تود أن تُظهر أن القوى التي تهدف إلى تصعيد القدرة، وقد اشتقت الحداثة منها في وقت ما وعيها الذاتي، وترقباتها الطوباوية، هي نفسها التي تجعل السيادة تنقلب تعلقا، والتحرر اضطهادا والعقلية لا عقل.
وما يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية هذه الأيام من تظاهرات اتسعت لتشمل كل الأعراق، وليس فقط الأمريكيين من أصول افريقية، هي نتيجة طبيعية لعجز الدولة عن استيعاب المختلف، وخلق تجانس وطني، وتجاوز مرحلة تاريخية قاتمة انبنت على التمييز والعنصرية، وتبين أنها مازالت سائدة ضمن التركيبة السيكولوجية للمجتمع الأمريكي. ودونالد ترامب لا يستطيع الاستجابة بشكل بناء لأي أزمة تعصف بأمريكا في ما يبدو، من كورونا إلى واقع البطالة المتفاقمة وصولا إلى اندلاع الأحداث الأخيرة، كنتيجة للسلوك العنصري ضد أصحاب البشرة السوداء.
وما يجري لا يمكن عزله عن أزمة المنظومة السياسة داخل أمريكا، التي كشفت في العقود الأخيرة عن تصدع القيم الأخلاقية والسياسية والإنسانية، وباتت ظاهرة تدعو إلى الاشمئزاز في أوساط النخبة في الولايات المتحدة، وهناك علاقة وثيقة بين ثورة الداخل نتيجة تأزم الأوضاع الاجتماعية والصحية، وما يشوب قضية التعايش الأهلي وسلميته، وتلك الانهيارات المتتالية والمواقف المشبوهة للإدارة الأمريكية في الشرق الأوسط، والاستئثار الإسرائيلي بمفاصل القضية الفلسطينية، وتمدد اللوبي الصهيوني إلى مراكز القرار في الكونغرس، وداخل البيت الأبيض، والفشل الذريع الذي حصدته واشنطن في العراق وأفغانستان، إضافة إلى توتر العلاقات المتصاعدة بين الولايات المتحدة من جهة، والصين وروسيا وإيران وبعض دول أمريكا اللاتينية من جهة أخرى. وإن رافقت أطوار الاحتجاجات في نحو 30 ولاية أمريكية دعوات للتعقل، وعدم إدخال البلاد في دوامة العنف والفوضى، فإن خطاب ترامب الأخير وتغريداته المستفزة، تؤجج الأوضاع، وترفع منسوب الاحتقان والمواجهة بين الشرطة والمتظاهرين. وفي ظل تركيز البعض على أحداث العنف فقط، خاطب ناشطون أمريكيون السلطات بالقول «إننا تعلمنا العنف منكم، لا تحدثونا عن النهب، أمريكا نهبت السكان الأصليين السود». وفي الأثناء اكتفى الرئيس الأمريكي بتحية رجال الشرطة، وأشاد بعمل الحرس الوطني في مواجهة من سماهم الفوضويين، متهما منظمة أنتيفا اليسارية المناهضة للفاشية بالوقوف مع أعمال العنف، وملمحا في الوقت نفسه لأعداء أمريكا في الخارج في إشارة واضحة للصين وروسيا وإيران، بين محرض ومستفيد حسب اعتقاده، في نوع من تصدير الأزمة، والابتعاد عن جوهر المشكلة وأسبابها الرئيسية، والهروب من الاعتراف بأن تغييب التجانس داخل المجتمع الأمريكي هو سبب ما يحدث من احتجاجات وغضب شعبي.
خاطب ناشطون أمريكيون السلطات بالقول «إننا تعلمنا العنف منكم، لا تحدثونا عن النهب، أمريكا نهبت السكان الأصليين والسود
كل الديمقراطيات التي نشأت بحسب التفصيلة الغربية، اتخذت شكل الدولة القومية، ولكن رغبة أمريكا وطموحاتها الامبراطورية اصطدم بواقع الديناميكيات السياسية التي يمر بها العالم، والتي على خلفيتها لم يعد في وسع «نُظم الهيمنة» أن تعمر طويلا، ناهيك من أن المجتمع لا يستطيع أن يؤثر سياسيا في نفسه، قبل أن تتميز فيه منظومة هي جزء منه تتخصص بالقرارات الملزمة الجماعية، التي على أساسها يمكن فهم «دولة الإدارة» المشكلة في أنماط القانون الوضعي، كنتيجة «للتخصص الوظيفي»، على اعتبار أن القانون ليس وسيلة تنظيم الإدارة وحسب، بل هو يحمي المجتمع الخاص ضد الدولة، عبر توجيهه التفاعلات الناشئة بين الاثنين إلى دروب قانونية، عدا ذلك لا يمكن الحديث عن دولة القانون والديمقراطية. وكلما ازداد تعقد الأنظمة المحتاجة إلى توجيه عظُم احتمال العواقب الجانبية المعطلة لوظيفتها، على نحو تحول القوى الإنتاجية إلى قوى هدامة وطاقات التخطيط تتحول بدورها إلى طاقات إخلال. وهو «التوتر» الفريد من نوعه الذي عبر عنه يورغن هابرماس في علاقة بحقوق الإنسان بين معناها الكوني والشروط المحلية لتحقيقها. فحق المواطنة الكاملة بمتطلباتها الإنسانية يجب أن يسري على كل الناس من دون استثناء، أو تمييز على أساس اللون، أو العرق، ودولة القانون الديمقراطية ليس فقط اسميا، يمكنها أن تفرض بقوة القانون أن يكون لكل أمريكي الحق في التمتع بحقوق الإنسان فعليا وبشكل مباشر، من دون أن يتعرض للقتل العمد لمجرد أن بشرته سوداء، وهو من أصول افريقية.
يبدو أن الاحتجاجات الأخيرة تتغذى من تداعيات جائحة كورونا، التي خلفت ما يفوق المئة ألف وفاة وملايين العاطلين عن العمل، وتقلص إمكانيات استيعاب الأزمة، والاقتصار على الحلول الأمنية يفضي إلى مزيد اشتعالها، خاصة أن هناك تقارير صادرة عن منظمات الدفاع عن الحقوق المدنية تكشف هوة ساحقة في مجال الرعاية الصحية بين الأمريكيين الأفارقة، وبقية المجموعات العرقية، وأن معظم المتوفين بسبب الوباء والنسبة الأكبر كذلك من العاطلين نتيجة الأزمة، هم الأمريكيون من أصول افريقية، وهي جريمة كبرى عندما يصبح الحق في الحياة والعمل خاضعين لقواعد تمييزية عنصرية.
واقعة 11 سبتمبر هي الحادثة الأولى التي جعلت المجتمع الأمريكي يرى ولأول مرة أثر السياسة الخارجية على الجبهة الداخلية، وأصبحت فئات واسعة من الأمريكيين تدرك أن السياسات الخارجية لا تخدم كثيرا المصالح الأمريكية وتحديدا الأمن الداخلي، ويبدو أن أزمة الجائحة العالمية وآثارها الكارثية تدفع مرة أخرى الشعب الأمريكي للاحتجاج، وإن كان مقتل جورج فلويد قادحا لها في الظاهر. ويجدر بنا التذكير أنه عندما انعقد مؤتمر عالمي في جنوب افريقيا لمناقشة قضية التمييز العنصري، سعت الولايات المتحدة لتجنبه. ثم قامت بالانسحاب بعد أن حضرته تضامنا مع إسرائيل، ما أظهر إخفاقا مخزيا في السلوك الدولي الحكيم. وعندما بدأ العالم يهتم بموضوع البيئة، واضطراب المناخ ومدى خطورة ثقب الأوزون على الغلاف الجوي تراجعت أمريكا عن الالتزام العالمي، وانسحبت من اتفاقية تخفيف مقدار التلوث البيئي بتعلة أن ذلك سيؤثر في الاقتصاد الأمريكي. ومثل هذا الغرور يكشف أزمة المنظومة السياسية الحاكمة، واليوم أصبح المجتمع الأمريكي يدرك غياب القيادة الملهمة، التي تملك القدرة على جمع الدعم الشعبي القوي والمنطقي، وغابت «حقبة القائد الذي يجب أن يستجيب لصوت الشعب»، كما عبر الرئيس الأمريكي السابق وودرو ويلسون. وعندما تَرَك الشعب الأمريكي التعامل مع قضايا العالم لحكومته وانصب جل اهتمامه حول العمل والتقوقع الاستهلاكي، استطاع بضعة أشخاص التحكم بحياة الملايين وسمحت «الديمقراطية» بوجود الاستبداد.
كاتب تونسي