المجتمع العربي بين الانماط القبلية وهواجس الديمقراطية ونتائج الصندوق

حجم الخط
0

الاعتقاد بان العرب باتوا جاهزين للديمقراطية ومفاعيلها وارتداداتها واستحقاقاتها هو مجافاة لأم الحقائق، انها الحقيقة الثابتة التي نشهدها بأم العين صباح مساء، وهي ان المجتمع العربي عموما لا يؤمن الا بالقبلية واشباهها عنوانا اساسيا في ادارة بيته الداخلي، وان ظهر خلاف ذلك في بعض المناسبات. ان القول بان الديمقراطية كمفهوم عملي يمكن تبنيها واعتبارها أداة ناجزة في ادارة شؤون المجتمع على مختلف الاصعدة، أو بأنها آلية سهلة التطبيق بين الشعوب العربية هو مجافاة لحقائق التركيبة التاريخية للمجتمعات العربية على اختلاف مواقعها الجغرافية، وتركيباتها السكانية المختلفة.
صحيح ان التعميم يحمل ظلما في بعض الاحيان، ولكن غالبية التجارب العربية في التعامل مع الديمقراطية، كمفهوم شامل ومتقدم في نسق الحضارة الانسانية الحديثة هي تجارب فاشلة، بل انها لا تنم عن حالة من الرشد السياسي او الاجتماعي في خلق المراجعات المناسبة واللازمة للتمهيد التدريجي لبناء حالة ديمقراطية فاعلة ومتوازنة تحقق استقرارا نوعيا في تداول الحكم والسلطة.
ان الارتباط العضوي بين الفرد وخلفيته القبلية يطغى على ما دونه من مفاهيم عندما يرتبط الامر بعملية صناعة القرار المؤثر في حياة الافراد والمجتمعات في المنطقة العربية. فالعائلة الصغيرة وقرارها الداخلي في الغالب ما يؤخذ بطريقة غير ديمقراطية، وكذلك الامر عندما تأتي الامور الى العائلة الاكبر، او العائلة الممتدة، او القبيلة وافخاذها وحمائلها التي تنتهي الى قرار حاسم يصنعه شيخ القبيلة او عميدها، مع ملاحظة ان الشباب والمرأة في العادة مغيبان عن المشاركة في اي مشاورات قد يتم القيام بها تمهيدا لصياغة القرار او انتاجه في ما بعد.
ان ما ينطبق على القرارات العائلية وكيفية اتخاذها والطرق المتبعة في ذلك، امتد بشكل آلي الى الاحزاب والمنظمات السياسية العربية، المحافظة او التقدمية، فاصبح رئيس الحزب او المنظمة ينتخب ‘تزكية في معظم الاحيان’ طيلة حياته ويتوج رمزا خالدا في اسفار وادبيات الحزب او المنظمة، مما يعقد اي عملية تجديد، ويجعل من شبه المستحيل المناداة بأي عملية تغيير تستهدف التقييم او التجديد. وهذا بطبيعته يحول رأس الحزب الى سلطة ابوية جديدة، يعتبر انتقادها او الخروج عليها جريمة من شقين، شق ذي طابع اخلاقي يتعلق بالقائد وسلطته الابوية، وشق حزبي سياسي يتعلق بهذا القائد كرمز خالد يؤدي انتقاده او الخروج عليه الى التأثير على وحدة الحزب ورمزيته وموقفه في الاوساط الاجتماعية او السياسية، وهل هناك من عاقل يود ان يكون السبب في ذلك؟
صحيح ان التطورات العصرية شقت طريقها شكليا الى البنية السياسية في المجتمع العربي، حيث نجد ان الاحزاب ومنظمات المجتمع المدني اخذت مكانا واسعا في هذه البنية، واصبح لها من الامتدادات ما قد يحسب حسابه لو أنها في مجتمع يتبنى الديمقراطية كنهج يعالج امور السياسة والحكم، الا ان هذه المنظمات والاحزاب العاملة في المجتمعات العربية ايضا وقعت في الفخ التقليدي في ادارة شؤونها، فهي تروج للديمقراطية، ولكن قوام بنيتها اعتمد في الاساس على حكم افراد معينين يحكمهم مدير او رئيس مجلس ادارة يتم اعادة اختياره او التجديد له بطريقة شبه اوتوماتيكية لتبقى المؤسسة او الحزب مرتبطين به، وتستمد نفوذها وسمعتها من سمعة الشخص ونفوذه. هكذا هي الحال في معظم البنى الاساسية التي اقتربت من حدود المسميات العصرية القريبة من الديمقراطية دون ممارساتها. فنرى ان البرلمانات وانتخاباتها في المنطقة العربية تجري وفقا للتقسيمات العائلية الصغيرة او الممتدة، حتى انها في كثير من الاحيان لا تمثل الا عملية انتقال عائلي يتوارثه الاجداد والاباء وابناؤهم، بل ان الكثير من المسميات البرلمانية وافرازاتها الحكومية تنحصر في نفس الخيط العائلي لعشرات من السنين.
لم تتخذ الاحزاب العربية منحى مختلفا عما تمت ممارسته ولا زال الى حد بعيد في تلافيف البنية القبلية وتفرعاتها التي طغت ولا زالت على كل القطاعات المؤثرة في الحراكات المجتمعية سياسيا واجتماعيا واقتصاديا.
آخذين بعين الاعتبار ان بعض الدول والمجتمعات العربية لم تعرف يوما ما يسمى بالاحزاب او مشتقاتها، الا على مستوى التسمية والشكل طبعا، حيث نجد ان الحزب السياسي في المنطقة العربية عموما يحصي انفاسه السياسية ويقرر اعتباراته على تقسيمات ومؤثرات عائلية ومناطقية جغرافية لا ترتبط بالقدرة والكفاءة في اي شكل من الاشكال. لهذا نجد ان هناك حالة من التلهي الفاقع والوهم المستحكم بأن الديمقراطية تنتهي عند ممارسة التصويت في صندوق الاقتراع. يسبق ذلك حالة نكران متراكمة بأن المجتمعات العربية بينها وبين الديمقراطية الحقة جفاء شديد، ومسافات واسعة توازي حجم التربية الديمقراطية المفقودة، وما يماثلها من حجم السلطة الابوية القبلية التي تدور الشعوب العربية حولها اينما دارت.
لا زالت الاحزاب السياسية العربية، وان اختلفت تسمياتها الموشحة بالديمقراطية والتقدمية، وكذلك منظمات المجتمع المدني، وان تضمخت بكل شعارات حقوق الانسان واسقاطاتها الديمقراطية المتنوعة والمتطرفة، كلها تطورت حداثيا بطريقة شكلية مطهمة بالبنى والمؤسسات والدوائر الحزبية المختلفة، ولكنها فعليا احتفظت بالممارسة القبلية العميقة، كلما تعلق الامر باتخاذ قرار او صناعته، او كلما كان الامر متعلقا ببناء السياسات والاستراتيجيات على اختلاف المستويات والاصعدة. فرئيس الحزب اصبح البديل المتطور او الحداثي لشيخ القبيلة او عميد العائلة. حتى أن من يتم انتخابهم من القيادات الحزبية العليا او الوسطى يخضع لهوى ذلك الرئيس القائد الرمز، حيث انهم ينتخبون لانه يدعمهم أو يزكيهم او يبدي رضاه عنهم، بل ان اشادته بهم لا تجعل خيارا للاخرين في تقدم الصفوف او حتى الترشح للمناصب القيادية. فالخيارات الديمقراطية متوفرة شكليا ولكنها منعدمة عمليا. النزع الدائم للممارسة القبلية العائلية وترحيلها الى الممارسة السياسية والبناء الحزبي اصابت الحريات السياسية في مقتل، واثرت بشكل سلبي على حريات الافراد وقدرتهم على التمتع بمنسوب مقبول في المشاركة السياسية، الا من نافذة الاحزاب او المنظمات الاهلية التي لم تمنح قدرا مقبولا من الحرية وتطويرها للمنتمين اليها أو العاملين فيها، مما قلص من حجم المساهمة الابداعية الفردية في التفاعل مع الديمقراطية وادواتها.
ان انحسار الحرية وتقييدها جعل من سلطة التفكير القبلي او العائلي، ومن ثم الحزبي محصورة في شراء الولاءات وبنائها بطريقة تتوافق مع طريقة التفكير المركزية لرئيس الحزب او المنظمة. لذلك فانه ليس بغريب علينا ان نرى ان المنطقة العربية تعيش حالة من الانكماش في الفعل الديمقراطي، من دون الاستغناء طبعا عن الترويج النظري للديمقراطية، وما يرافقه من شعارات جاذبة تثبت فشلها التكويني بشكل يومي في ساحات الفعل والعمل السياسي، وما يرتبط به من آليات بناء وتسيير للمجتمع المدني.
لم يدرك المجتمع العربي عموما ومفاصله التقريرية الوازنة ان الديمقراطية تتعلق بسيادتها على طريقة الحكم وصناعة آليات الرقابة التمثيلية الدائمة بما يحقق مصلحة المجتمع بكل مكوناته. ولم يدركوا ايضا ان الوصول الى كرسي الحكم لا يعني انابة الحاكمين حصرا في توجيه الموارد المالية واتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية وتنصيب الموظفين الكبار من وزراء وغيرهم حسب رؤيتهم الخاصة، من دون رقيب او حسيب. يجب ان يطور المجتمع العربي فهمه القاصر للديمقراطية بحيث يتوازى فعله مع ادراكه بأنها الوسيلة الفعالة والمتاحة في استخدام الادوات والبرامج والمؤسسات الرقابية (قضائية وتشريعية وادارية) على كل الخطوات التي تقوم بها الهيئة الحاكمة المنتخبة. نقول ذلك وعيننا على اسئلة كثيرة ومتناثرة تتناول الديمقراطية ومفاهيمها المتشعبة، من حيث صلاحيتها كأداة لخدمة المجتمعات العربية من عدمه. لا ينبغي للمجتمعات العربية الاعتقاد بان الديمقراطية تنحصر في فوز الاغلبية بنتائج الصندوق، بل عليها ان تدرك ان ذلك يترتب عليه الالتزام بقواعد منهجية صارمة تلزم الاغلبية في حماية رأي الاقلية والدفاع عنها وعن حريتها في المشاركة السياسية، من دون تهميش او اقصاء. وما ينطبق هنا على الحزب الفائز فانه ينطبق على الممارسات الداخلية لكل حزب على حدة في كيفية ادارة الامور واتخاذ القرارات.
من الجدير بالمجتمعات والاحزاب العربية ان تتدارك فهمها وتربي اعضاءها على ان الصندوق لا يؤهل الحزب الفائز ان يتحول الى قبيلة حاكمة تقصي من تشاء وتقرب من تشاء، ولا لرئيس الحزب ان يتحول الى شيخ لهذه القبيلة، فيمنح من يشاء ويمنع عمن يشاء، بل ان الصندوق عبارة عن اداة لقياس مدى اهلية هذا الحزب او ذاك في القدرة على التكيف الديمقراطي في استيعاب الاخر واعطائه المنصة المناسبة والآمنة في الانتقاد والمساهمة في البناء الذي يحقق رفاهية المجتمع ورخاءه المستدام. تغيير الافكار الجامدة عن الديمقراطية وتمددها في تفاصيل البنية الاجتماعية العربية اصبح لازمة حتمية، اذا اصر العرب على ان الديمقراطية هي طريقهم الى الاستقرار وبناء الدولة الحديثة. هذا يحملنا طبعا على القول بأن الديمقراطية الغربية قد لا تكون نموذجا آليا معلبا قابلا للتطبيق في المجتمعات العربية في ظل هذه الهوة العميقة بين الفهم والتطبيق. ليس من الكافي ان نجند الناس من مختلف الطبقات والخلفيات للمناداة بالديمقراطية، بل من المهم ان يسبقها فهم متأصل بأن الديمقراطية لا تعني حمل مجموعة من الاشخاص الى موقع وسلطة قبلية أبوية مطلقة تعرف وتقرر منفردة ما ينفع الناس وما يضرها، فتتحول كل الدولة او السلطة الحاكمة بكبار موظفيها الى مرتع للفائزين بالانتخابات دون غيرهم من الكفاءات والمفكرين والمؤثرين في مفاصل البناء المجتمعي من تكوينات دينية او جغرافية او عرقية او غيرها.
من وحي التجارب العملية الماثلة امام اعيننا، فاننا لا نرى مشكلة في وجود الانظمة الملكية او الاميرية او السلطانية او غيرها، وانما المشكلة الحقيقية هي في العقليات التي ستدير دفة هذه الانظمة، فليس مهما طبيعة النظام السياسي وتركيبته الحزبية ـ نظام الحزبين او الاحزاب المتعددة – المهم هو كيفية ادارة النظام وطبيعة التعاطي مع المصطلحات الديمقراطية وسلاسة التنسيق بين مكوناتها المختلفة. ومن المهم جدا، ان لا يتحول الملك او الامير وما يديرونه من انظمة الى استنساخ لنظام قبلي يتحولون فيه الى شيوخ قبائل، ولكن بتسمية منمقة وبطابع يحمل من الحداثة شكلها فقط. نقول هذا ونحن نرى ان العديد من الدول الغنية والمتقدمة والمستقرة على كافة الاصعدة مثل السويد، النرويج، بريطانيا، بلجيكا، اسبانيا، هولندا، الدنمارك، لوكسمبورغ، كلها لا زالت تحتفظ بانظمتها الملكية وتحافظ على استقرارها وازدهارها وتجربتها الديمقراطية، وفوق كل ذلك نظامها القانوني الحقيقي الذي لا تستطيع النخب الحاكمة تجاوزه تحت اي من الحجج او الاسباب، على اعتبار انه احد اهم مقومات الحفاظ على الديمقراطية وشروطها العابرة للجغرافيا والديموغرافيا، وما بينهما من تناقضات ومصالح متشابكة ومتشاكسة لا يضبط ايقاعها الا حكم القانون، الذي يعد المايسترو الاول للايقاع الديمقراطي وارتداداته في كل الاتجاهات. وبما ان قانون القبيلة ـ مع اختلاف الشكل والتسمية – هو القانون السائد في المجتمعات العربية، على الرغم من احتفاظها ببنية قانونية تتبع نظاما قضائيه حديثا على المستوى الشكلي، الا ان سطوة السلطات التنفيذية على غيرها من السلطات وتداخلها في الصلاحيات مع افضلية حاسمة للاولى، يكرس الحكم القبلي ويجعل من النظام القانوني ورقة يتم اللعب فيها واستخدامها في اكثر الاحيان ضد الفئات الضعيفة والمهمشة في المجتمع، ويتحول بذلك القانون والقضاء الى سيف بيد الطبقات العليا مسلط على رقاب ما دونها من طبقات، وبهذا المعنى فان الطبقات العليا تتحول الى شكل جديد من اشكال القبلية، ولكن من مسار مختلف يستخدم فيه الثراء والمنصب لتطويع القانون والعبث بمبادئه وتطبيقاته.
ان الاصرار على بناء الدولة من خلال العقلية القبلية وشروطها، واستخدام الوسائل الانتخابية المباشرة او التمثيلية كأداة لتكريس النزعة الابوية القبلية هو وصفة فشل حقيقية لا يمكن من خلالها ارساء دعائم الديمقراطية والانتقال من خلالها الى بناء المجتمعات والدول المدنية التي تكون التعددية والاعتراف بها وبمكوناتها حارسا امينا لنظام سياسي يؤسس دولة لكل مواطنيها. هذه الدولة التي تتعاطى مع الجميع بناء على ما يقدمونه من فرص وما يمنحونه من قدرات في خدمة الدولة كمؤسسة راعية للجميع من دون استثناء. دولة لا تتحول الى قبيلة تحدد مصائرها امزجة رئيس القبلية او اعوانه وعائلته من المقربين، دولة تكون المؤسسة ونظامها القانوني اسسها الثابتة في كيفية اتخاذ القرار، ورصد الاخطاء، وآليات تصويبها، من دون الاعتماد على الروح القبلية التي عادة ما تكون روحا ميتة غرائزية مغرقة في الشخصنة والمصالح الفردية، بحيث تكون الدولة الديمقراطية المدنية اخر ما يلفت انتباهها.

‘ استاذ في القانون مقيم في لندن

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية