المجتمع المدني الآن

«المجتمع المدني الآن» يمكن في الواقع قراءة هذه العبارة قراءتين. أولاهما تحيل إلى تشخيص آني للمجتمع المدني، أو بالأحرى المجتمعات المدنية العربية بنقاط تشابهها واختلافها. قراءة تحليلية إذن. ثانيتهما قراءة أخرى، تنظر في الموضوع بمنظار الدعوة، بل الاستنجاد، بذلك أعني أن ساعة المجتمعات المدنية حانت أكثر من أي وقت مضى.
وما حديثنا السابق عن حكومات التكنوقراط والانتماءات غير الحزبية، سوى غيض من فيض تجليات المجتمع المدني الدفينة، التي لم تبرز إلى الواجهة بعد، وهي أشبه بالطنجرة التي وضع عليها غطاء منع تصاعد البخار، لكنها مستعدة للانفجار في أي لحظة.
وعلى ضوء تطورات شؤون الساعة الأخيرة، أريد أن أسأل: أين المجتمع المدني في العراق؟ وأين المجتمع المدني في إيران؟ بل لنكن أدقّ: أين المجتمع المدني من العراق؟ وأين المجتمع المدني من إيران؟ السؤال جوهري في ظل استيلاء المرجعية السياسية – الدينية على المنطقة، إلى درجة أن كتابتي كلمة «مرجعية» بالمعنى التحليلي التشريحي، يصطدم حتما بدلالاتها السياسية المعتمدة يوميا، وهنا بيت القصيد ولا أريد قول بيت الداء. لا أريد قول بيت الداء لأن ليس من صلاحيات غير أهل المنطقة، البت في أكثر المقومات صلاحية، لتحقيق الاستقرار في المنطقة. لكن في المقابل من حق أي محلل أن يستمع الى تعدد الأصوات الصادرة عن التركيبة الاجتماعية للمنطقة ذاتها، ونظرتها الصادرة بدورها عن التركيبة ذاتها، وأعني هنا تحديدا التركيبة الطائفية. فتغليب طائفة على طائفة، أكان من حيث العدد أو التحكم في المجرى السياسي لبلد، أو شعور الطائفة المغيّبة عن المشهد، بأن ذلك تم على حسابها فعلا – الأمر واحد- يحدد توجها محكوما عليه، على المدى البعيد، بتكريس الانقسام والتشرذم، لأن التجربة تثبت أن التوازن لا يعادل الوحدة. فمنظرو مفهوم الأمة باتوا صائبين عندما جعلوا من وحدة الأمة عمودا فقريا لكل تحاليلهم، بدءا بتكريس مركزية الحكم، وانتهاء بنسج كتاباتهم على منوال تجذير المواطنة والمواطن. وعندما أتحدث عن منظّري مفهوم الأمة، أتحدث عن منظّرين بحثوا في الموضوع، وغاصوا به عميقا في الزمن البعيد، فلو عدنا إلى واحد من أشهر من نظّر في الموضوع، المؤرخ الفرنسي Fustel de Coulanges، صاحب كتاب «تاريخ المؤسسات السياسية لفرنسا القديمة»، نتذكر أن الرجل بنى تحليله أساسا على علاقة الدين، بوصفه عاملا محددا لهوية المجتمع، بالدولة بوصفها ضامنة للوحدة الترابية، كونها الجهاز التنفيذي المؤطر للحياة العامة عن طريق مؤسساتها.

لا مجال لمجتمع مدني أن يصبح مدنيا، من دون إدراكه لمقومات مدنيته وتطبيقها على المدى البعيد

يمكن اعتبار هذا التحليل باكورة لأحد تعريفَي العلمانية الفرنسية، ذلك الذي لم تختره فرنسا في نهاية المطاف، وهو قائم على تجاور الانتماء الديني وغير الديني من جهة، والانتماء الى البلد كمواطن في الفضاء العام من جهة أخرى. ففي زمن التصويت على قانون فصل الدين عن الدولة في فرنسا عام 1905، دار نقاش حول طبيعة الفصل هذا، هل ينظر إليه بوصفه فصلا مؤسساتيا بحتا، تستقل فيه المؤسسة الكنسية عن جهاز الدولة حكما وتأويلا؟ أم يصطحب هذا الطرح طرح مواز يُنظر إليه كتداعية مباشرة للطرح السابق، وهو أن الدين المستقل عن إطار مؤسسات الدولة الحاكمة، يستدعي أن يعالج وفق معايير الخصوصية . طبعا، وقع الفصل بفرنسا في هذا المنحى، لكن العتاد التنظيري الذي جاء به النقاش يقدم طرحا نعثر عليه أيضا في المجتمعات العربية وفق خصوصياتها. لقد أثبتت التجربة التونسية في هذا المجال
اضطلاعا بالموضوع، وتبحرا فيه، دفعاها الى اعتماد مصطلح الدولة المدنية. ويمكن اعتبار «الدولة المدنية» فعلا ترجمة لتوجه علماني بالمفهوم الذي تُرِكَ جانبا بفرنسا بعد أن نوقش بقوة
أما في منطقة الشرق الأوسط، فالمسألة مطروحة أيضا، مطروحة وفق محور تحليلي ينطلق من المعطى الاجتماعي والسياسي القائم، التركيبة الطائفية، ومن يطالب بإلغائها، وعلى أساس هذا المحور تنطلق الأفكار والنقاشات بدورها، بعرض مجموعة من الخيارات النظرية كتجديد الأفكار العلمانية في سوريا والعراق، بحيث يتم التفريق بين تجفيف منابع الأيديولوجيا الاستبدادية القمعية التي فرضت نفسها ميدانيا، والعودة التنظيرية التحليلية الهادئة إلى تفكير ميشيل عفلق وصلاح البيطار المتحول جذريا عن مساره، وبصورة أشمل، ذات التوجه التحليلي، المبني على المراجعة التجديدية الصالح للتطبيق على الفكر القومي العربي، ولم تمتنع بعد تيارات في مصر مثلا عن الخوض في هذه التجربة الفكرية.
قد يقول قائل «لقد خضت في السياسة!» كلا لم أخض بمقالي هذا في السياسة، وإنما في إشكال  اجتماعي في صميمه، وهو كيفية تشكّل مدنية المجتمعات بعيدا عن المعنى الفئوى والحزبوي المؤدلج للسياسة. من هنا حديثي عن «المجتمع المدني» ولم أقل «الدولة المدنية»، رغبة في التركيز على أسبقية المجتمع في لعب هذا الدور، كما لم أقل المجتمع العلماني، إيمانا بأن العلمانية ليست مفهوما يمكن تطبيقه خارج اعتبارات سياقية وثقافية. ولا مجال لمجتمع مدني أن يصبح مدنيا، من دون إدراكه لمقومات مدنيته وتطبيقها على المدى البعيد.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية