في مجموعته القصصية الجديدة «باصات أبو غريب» الصادرة في مطلع شهر أيلول/سبتمبر 2020 عن دار نينوى في دمشق، يضعنا القاص بولص آدم أمام شخصيات تبدو كما لو أن رساما تعبيريا قد خطط ملامحها، بمعنى أن القارئ لن يكون في حاجة إلى أن يبحث في هذه الملامح عن البعد الأخلاقي أو الفكري، بقدر ما سيكون موزعا في قراءته بين الإحساس بجمالية الأسلوب الرشيق في بنية السرد القصصي، وحماقة العالم الخارجي الذي يحيط به كإنسان وليس كمتلق للعمل الفني، لأنه قد تواطأ بصمته على استمرار هذه القسوة، التي مورست إزاء الشخصيات في الواقع.
يندرج هذا الإصدار ضمن مشروعه الأدبي الذي أطلق عليه مفهوم «الواقعية الوحشية» إذ سبق أن أصدر كتابين في سياق هذا المشروع، الذي يحاول فيه أن يلملم شظايا العالم الواقعي الذي عاشه المؤلف لفترة تجاوزت العامين ونصف العام، اثناء فترة اعتقاله داخل سجن أبي غريب في منتصف ثمانينات القرن الماضي. والكتاب في 86 صفحة من القطع المتوسط، وقد ازدان غلافه بواحدة من لوحات الفنان العراقي الراحل لوثر إيشو. جدير بالاشارة أن هذا الإصدار يأتي بعد ثلاثين عاما من إطلاق سراحه بعفو عام، شمل جميع السجناء الذي تم الحكم عليهم بسبب رفضهم المشاركة في الحرب..
عالم موحش
ما يُحسب لبولص، أن مخيلته الفنية استحضرت تفاصيل صغيرة وهامشية في حياة السجناء، وأعاد خلقها من جديد دون رتوش تقليدية مبتذلةٍ، عادةً ما ينساق إليها من يتصدى لمثل هذه الشخصيات، ولهذا نجدها تركت لدينا انطباعا اختلطت فيه خفة الكوميديا مع قسوة التراجيديا، سواء على المستوى النفسي أو التقني. وهذا الاستدعاء السردي الجميل، لعالم إنساني موحش يقبع منزويا في المعتقلات، نادرا ما كُنَّا على تواصل معه عبر نصوص سردية تتفاعل مع واقعيته الحافلة بحيوات لم نصادفها في حياتنا اليومية، ربما لأنها تنتمي إلى قاع المجتمع، وحتى في ما لو صادفناها لن نلتفت إليها، لأن بصيرتنا أصابها العمى، فنحن في هذه القصص أمام شخصيات ليست سيئة، لكنها كائنات افتقدت إلى من يلمس أمنياتها البسيطة ويصغي إلى أنينها.
من الصعب، على أي واحد منَّا أن يلتقط الجوهر الإنساني لهذه المخلوقات المنفية خارج الحياة، فقط من يملك في داخله فيضا من المحبة لا حدود لها، وبولص آدم لو لم يكن يحمل مثل هذا الحب لما حافظ على توازنه طيلة الفترة التي عاش فيها هذه التجربة القاسية، وهو بهذا الرصد السردي، لكائنات لم نكلِّف أنفسنا عناء الإصغاء إليها، أو الاقتراب من حافات عوالمها الحاشدة بكل ما يجمعنا معها كبشر، من أمنيات وأحزان ومشاعر، يعيدنا إلى أنفسنا لنتصالح معها.
لا شك في أن هناك الكثير ممن يمارسون الكتابة القصصية، إلاَّ أن قلِّة منهم يمتلكون مخيلة نظيفة عندما يعيدون بناء شظايا هذا العالم المتناثر، بكل قساوته ووحشته وآلامه المدفونة في صدور الرجال.
زمن أقصاه السرد
ما يلفت الانتباه في هذه المجموعة، أن شخوصها وزمكانية أحداثها، مستوحاة من بيئةٍ ما زالت خاما، إذ لم يقترب منها السرد العراقي بما يكفي، أو بما تستحقه من اهتمام، فبقيت مجهولة بقدر كبير لا يتناسب مع تركيبتها المعقدة بمستويات أشكالها الإنسانية وامتداداتها مع البيئة الاجتماعية في الخارج، أي مع الحياة الطبيعة بعيدا عن السجن، رغم أن المعتقلات كانت وما زالت تمثل زمنا موازيا للزمن الذي يعيشه العراقيون خارج أقبيتها وأسوارها، وغالبا ما يتداخل هذا الزمن بشكليه وصورتيه، ليؤلف لنا تفاصيل مختلفة داخل إطار لوحة واحدة، كما في هذه القصص التي تحرَّكَ فيها الزمن السردي بين الداخل والخارج، وبات من الصعب فك الاشتباك بينهما، فكان الجميع سجناء خطوط رسمت لهم حدود حياتهم وعدد نبضات قلوبهم، وما هو مسموح لهم به من أحلام أو من شهيق وزفير، ومع ذلك بقي هذا الزمن بكل كثافته محبوسا في عتمة السجن، وفي زوايا ذاكرة من ذاق قسوة هذه التجربة، ولم يلامسه ضياء السرد وينفض عنه الغبار، رغم ما تخبئه هذه المادة الخام العراقية بامتياز، من قصص تزخر بمحتواها الإنساني، وما تكشف عنه من تنوع في أشكال الصراعات القائمة التي يواجهها الإنسان، والتي غالبا ما تتداخل فيها سرديات نسجتها عقائد وأيديولوجيات وتصورات وخيالات وخرافات، إلى الحد الذي ستكون متاحة أمام القاص إذا ما اقترب من هذا العالم، فرصة أن يكتشف ممكنات فنية جديدة، قد تدفعه إلى أن يتجاوز بمخياله ما هو مرئي ومحدود، ليدخل في رحلة تتيح له أن يقدم لنا شخصيات واقعية في غاية الغرابة، ربما لن نعثرعلى ما يشبهها في الواقع، وهنا تكمن المفارقة، وهذا ما أتاحته لنا هذه القصص.
مجمل ما كَتَبه القاص بولص آدم عن تجربة السجن، يُعد من وجهة نظري، من أنضج ما أنتَجه السرد العراقي في هذا الموضوع من الناحية الفنية، حيث توفرت فيه أهم ما ينبغي أن تكون عليه بنية السرد، وما يتوجب أن يتوفر فيها.
أُتيحت لي في أوقات سابقة أن أقرأ كل ما نشره بولص من نصوص قصصية وكتابات سردية عن تجربته في سجن أبي غريب، سواء في كتابه المذهل «ضراوة الحياة اللامتوقعة» أو «اللون يؤدي إليه» أو قصص هذه المجموعة، واستطيع أن أسجل دهشتي وإعجابي بما يمتلكه من مخيلة جامحة، وأدوات تقنية يتفرد بها في سرد حكاياته، وقدرة لغوية مشبعة بالإيحاء، تمنح بنيته القصصية متعة وسلاسة وتشويقا وحبكة تدفع البناء إلى أن يكون متماسكاً ومشدوداً، بالشكل الذي لا ينفرط اهتمام القارئ ويضعف في متابعة السّرد.
مشهد عام داخل مشهد خاص
مجمل ما كَتَبه القاص بولص آدم عن تجربة السجن، يُعد من وجهة نظري، من أنضج ما أنتَجه السرد العراقي في هذا الموضوع من الناحية الفنية، حيث توفرت فيه أهم ما ينبغي أن تكون عليه بنية السرد، وما يتوجب أن يتوفر فيها من عناصر مثل الإيجاز والابتعاد عن الثرثرة، والاهتمام بالمحتوى الإنساني، وإقصاء تام لأي تخريجات أيديولوجية مسبّقة في الحكم على الشخصيات والأحداث والفترة التاريخية، إضافة إلى ارتقاء المعالجة الفنية من حيث اللغة وزاويا الرؤية للمبنى الحكائي، وانصهار جميع العناصر في هيكل تخييلي واحد، إضافة إلى وضوح ما يودُّ إيصاله في خطابه الفني إلى القارئ من افكار، والأهم في هذا أنه يرصد من خلال شخصيات هامشية وعادية، مشهداً عاما كانت البلاد تختنق بين تفاصيله، وتكتسب عناوينها من دلالات الخنادق والملاجئ، وقوافل القتلى الذين كانوا يَصِلون عتباتها يوميا من ساحة الحرب العراقية الإيرانية، في مقابل ذلك كان السجناء يختنقون بأمنياتهم وأوجاعهم في زنزاناتهم، من غير أن يسمع أو ينتبه إليهم العالم بأسره خارج أسوار السجن.
أثر الخطاب السردي
من خلال قصص هذه المجموعة يشعر القارئ بالمرارة التي كان عليها بولص وهو يقبعُ سجينا لأيام وليال في دائرة ضيقة، محيطها تفاصيل موحشة، وشخصيات أقصي عنها النور والشمس والهواء، ولا بد أن يطرح على نفسه هذه التساؤلات:
كيف تمكَّن من الصمود؟
كيف حافظ على هذه الذاكرة من الخراب؟
كم تحمَّل من الأسى إزاء هذه الكائنات، وهو يعيد إحيائها في قالب فني، ليرصد من خلاله ضعفها وقسوتها وانهيارها وسذاجتها؟
كتب الناقد حسين سرمك مقدمة لهذا الإصدار جاء فيها «على الرغم من أن كثيراً من المبدعين العراقيين قد تعرّضوا لتجارب مريرة من السجن والتعذيب، إلا أن ما كُتب عن أدب السجون العراقي كان قليلاً جداً، بصورة تثير الكثير من الغرابة والتساؤلات. التفاتة بولص آدم في هذه السلسلة من القصص القصيرة من أدب السجون العراقي المطبوعة بحرارة التجربة الذاتية، تسدّ نقصاً كبيراً في المكتبة السرديّة العراقية في هذا المجال».
«باصات أبو غريب»: بولص آدم
إصدار دارنينوى للنشر والتوزيع في دمشق
الطبعة الأولى 2020
عدد الصفحات 86 صفحة
٭ كاتب عراقي