■ اعتاد السرد العربي في سياقه الروائي والقصصي الرجوع إلى أيام الماضي الجميل، وإلى شخصياته الخالدة، كلما أراد التعبير عن سخطه وعدم رضاه عما يجري في حاضر الأحداث الحياتية، المليئة بالأزمات، وحين غمر هذا الحاضر المأزوم أفق السرد عند أمين الزاوي، وألقى بشخصياته بين بحر الحلم وأرض التعب، مضى كغيره إلى إدانة أزماته، لكنه لم يرجع إلى ذاك الماضي، من أجل تثبيت هذه الإدانة، ولم يوهم أحداً بموج الأمنيات الراكض بلا هوادة إلى الشواطئ الغاربة والغارقة في زمنها. واختار الوقوف إلى جانب مَنْ يراهن على فعل ينشد الخلاص من أتون المعاناة. وأَقدمَ على استجلاب تباشير هذا الخلاص من المستقبل الافتراضي الذي استدعاه إلى حركة الحاضر، ليساهم معه في تعرية راهن أزماته، ويكشف عن مقدار المكابدات التي لحقت بشخصياته، متكئاً في بيان ذلك على نبوءة العرافين، الذين كانوا يقرؤون طالع أيام أبطال قصصه في مجموعته «ويأتي الموج امتداداً».
تأتي البداية على لسان أحد المشعوذين في قصة «الدليل» الذي يقول لبطلها: ستكون ملكاً.. بينما يكون هذا البطل غارقاً في واقع مرير، ما يجعل المفارقة حادة بين تباشير المشعوذ وحاله المُعاش في المدينة، التي يخبرنا عنها بأنها مقشبة بأكفان المساء، تتلوى في ذراع الدخان.. قد يأتيك الليل فيها في غير إقليمه وقد تفرحك الشمس فيها في غير فصلها.
وينفتح أفق السرد بعدئذٍ على ما يلاقيه من الفقر في قصة «أفواه فيها رائحة بصل» وقصة «رجل من الدرجة الثالثة» وقصة «الجري عكس دائرة الزمن الموبوء» وتبلغ الرحلة الكفاحية شأواً تتجاوز فيه حدود بلده إلى المغترب الأوروبي، وبذلك ينجز الكاتب برصد واقعي بعضاً من أفق الديسابورا الجزائرية، حيث يبدأ بطله بخوض معركة ثانية من مرسيليا الفرنسية ضد الفقر والغربة، التي تقول زوجته عنها: «الغربة غدارة يا لعربي..» وبأسلوب المفارقة الساخر، يدفع الفقر بطل قصة «الدليل» إلى العيادة ليشكو مرض الجوع للطبيب، في حين أن الطبيب يحذره بعد الكشف عليه من كثرة الأكل. أمام هذه الكوميديا السوداء المصاغة بحوار بين المريض وطبيبه، يلجأ أمين الزاوي إلى تدوير الحدث القصصي، ليدل على استمراريته في واقع غير محسوم، ما حدا به إلى اللجوء في قصصه إلى النهاية المفتوحة.
وبقي في معظم مساحة مجموعته القصصية وفي غير سياق سردي منها متمسكاً بالطفولة، باعتبارها تشكل بالنسبة إليه رمزية الانعتاق من واقع غارق في معاناة مزمنة، وباعتبارها تشكل أفقاً رمزياً آخر للمستقبل الافتراضي، الذي انحاز إليه من البداية، وكي تأخذ أبعاده الدلالية صفة مشروعة، أورده من خلال الطفل القادم من صلب رجل أمضى حياته في دنيا المعاناة، وبقي مكافحاً عنيداً أمام ما يواجه من أزمات صورها في قصة «ويجيء الموج امتداداً»، التي حظيت بعنوان مجموعته القصصية، حيث يعود في سياقها العراف إلى واجهة السرد، ويقول لهذا الطفل وهو يقرأ طالعه بعدما تعرف على اسمه: «سوف يبعدونك عن هذا الوطن.. سيعلمونك في الأقبية الظلماء أغاني الرثاء..» وتدور الأيام على سطور القص ويكبر الطفل الذي تتجسد في مآلاته نبوءة العراف. عبر هذه الفحوى يسوق أمين الزاوي حدثه القصصي، وفق لعبة الزمن التي يكون فيها (الأب) حاضر الماضي، ويكون فيها (الابن) مستقبل الحاضر، وهو بذلك يؤكد على الديمومة، ويؤبد بها اللحظة، معيداً إنتاج مقولة البير كامو الشهيرة: الإنسان في شقاء دائم. حيث يرث الابن (الطفل) تركة أبيه أحمالاً من المعاناة والتعب، فهو الحاضر أبداً في الروح الإنسانية وأحلامها.
ورغم أن هذا الحضور أخذ حيّزاً واسعاً في سياقات السرد عند أمين الزاوي، إلا أن مثوله على الصعيد الواقعي والرمزي جاء متعدد الدلالة.. ففي قصة «أفواه لها رائحة البصل» يأتي حضور الطفل في مجمل مجريات الحدث وهو يخوض في مدرسته، برصد واقعي معركة مبكرة ضد الخوف والفقر، ويتردد ويتلعثم في الكشف عن حاله ويقدم إجابة غير صريحة خلال درس المحادثة جراء خجله من أصدقائه التلاميذ وخوفه من ردود فعلهم بسبب حالة أهله المادية المتدنية.. وفي قصة «رجل من الدرجة الثالثة» يستخدم الكاتب الطفل والطفولة كحالة تعبيرية مساعدة لـه في وصف المكان، جاعلاً منها مشبهاً به كقوله في وصف المدينة: «الضباب يلف شوارعها.. رطوبة المساء طفل يبول على ملابسه فتسربل خلفه..» ويبدو أن الموضع الأكثر حساسية الذي أخذته الطفولة في قصص أمين الزاوي كان في السياق الذي تمثلها بأبعاد رمزية محمولة بها وحاملة لها في آن، للدلالة على مستقبل يخص المجتمع، وليس الأفراد، ضمن بنية سردية مفعمة بالشاعرية تقمص فيه الكاتب الشخصية المتحدثة ليقول بالنيابة عنها: «جاءتني طفلتي كوطن.. الوطن ريش حمام.. يعود إلى الذاكرة المثخنة بالجراح.. وأعلم طفلتي: جمال عيونك قنبلة الجوع في الزمن الموبوء.. وكلمات الطفلة يا أمي كانت تنام في قلبي كالأساطير.. فيها شمس وفيها غناء الأطفال ونحيبهم».
من خلال هذا السياق ينفتح السرد على الهمّ العام ليشمل جغرافية بلاد تسعى للقيام من أزماتها كطفل قادم من سلالة التعب بعد نهوضه من جراحه، وهو يتهجى ملامحه في مرايا المعاناة، أو كطفلة يكبر عمرها بمرور زمن موبوء بالجوع والفقر ونقص الخصوبة، التي كشف عنها العراف بنبوءة مخيفة، اقتبس منها أمين الزاوي أحلاماً وكوابيس، لا تأتي في قصصه على ختام نهائي بقدر ما تحيل على بداية جديدة، أوحى إليها وأومأ إلى تباشيرها، مستنداً إلى الراوي المشاهد والراوي المشارك، الذي تقمّص من خلاله الشخصية الساردة لاغياً المسافة بينه وبينها، فجاءت رواية سياق الحدث ومجرياته عبر ما يسميه واين بوث، بالأنا الضمنية الثانية للكاتب، وهو ما يجعل رواية السرد تأتي من داخل موقع الحدث وبيئته وليس من خارجه، ما يقلل من الجملة الوصفية العائمة على سطح المشهد القصصي الدائر بلغة اعتمد الكاتب في جملته الناقلة لها على سين الاستقبال. وهو ما جعل بنية السياق عنده تقوم على ما حدث وما يحدث وما سيحدث، بقيت شخصياته من خلالها أسيرة لغة الراوي العليم، الذي استولى في العديد من المواضع على أفق التعبير فظهرت غير مراعية للفوارق المعرفية بينها بعد أن اختار الكاتب نقل المعاناة الجماعية ومعاركها الحياتية المفتوحة بأطر أحادية تعبر عن رؤية أيديولوجية محددة، لا يمكن تعميمها على كافة الفئات الاجتماعية التي تشمل الوطن الجزائري بكامله، وهو ما سيجعله مبتعداً عن مبدأ المساواة بين ما هو عقلاني، وما هو قائم تاريخياً. وتبقى في الأخير المعركة الحياتية التي خاضها أبطال أمين الزاوي بلا توقف وبلا نهاية.
٭ كاتب من سوريا