المخرجان جوانّا وخليل: سيناريو من الواقع والخيال وتحية حب لبيروت ولأدوات السينما جميعها

زهرة مرعي
حجم الخط
0

بين لبنان وكندا بُنيت حبكة «دفاتر مايا» العائدة بصندوق من باريس

بيروت ـ «القدس العربي»: في خضمّ الأزمات التي يكابدها اللبنانيون يومياً حلّ عليهم فيلم «دفاتر مايا» المتميز بصياغته السينمائية المقنعة، داعياً إياهم إلى الصالات، للوقوف على مرحلة الثمانينيات من عمر هذا الوطن. «دفاتر مايا» ليس استعادة ممجوجة للحرب الأهلية ومسبباتها، بل استعادة للذاكرة التي خلّفها كثيرون في لبنان حين هاجروا قسراً. ومحاولة الإضاءة على مرحلة قاسية علّ الأجيال المقبلة تعتبر.

وصل «دفاتر مايا» إلى المسابقة الرسمية لمهرجان برلين الـ71. فاز بعدة جوائز عربية ودولية. منها جائزة سعدالدين وهبة ضمن مسابقة آفاق السينما العربية في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي. عمل سينمائي مشغول بإتقان، رغم تحديات تعدد الجغرافيا والزمان. يتمتع بصياغة مقنعة، وباختيارات صائبة للممثلين، وفيه برعت الممثلات ريم التركي في دور الأم، ومنال عيسى في دور مايا المراهقة، وبالوما فوتييه في دور أليكس ابنة مايا، والممثل حسن عقيل في دور رجا.
جوانّا حاجي توما وخليل جريج ثنائي حياة ومهنة انطلقا سوياً، وخطوة خطوة بنيا لذاتهما اسماً محترماً وموثوقاً. من أفلامهما «يوم آخر» و«النادي اللبناني للصواريخ». معهما هذا الحوار:
○ لماذا وكيف قررتِ فتح دفاترك؟
•جوانّا: هي دفاتر كتبتها بين 1982 و1988 لصديقتي التي تركت لبنان لتعيش في فرنسا. تواعدنا قبيل سفرها أن نتبادل الكتابة والرسائل وتسجيل أشرطة الكاسيت بشكل يومي. نفذنا الوعد وتبادلنا الرسائل على مدار تلك السنوات. كبرنا وتراجع التواصل بيننا، وحين التقينا بعد 25 سنة كان التصريح الأول المشترك احتفاظنا معاً بالرسائل وسواها، فتبادلناها. فجأة عادت رسائلي إلى بيتنا وانصرفت لقراءتها كاملة في ليلتين، واستمعت إلى الأشرطة المسجّلة. حينها كانت ابنتنا عليا بعمر الـ14 سنة، وهو العمر الذي بدأت خلاله كتابة الرسائل، فأصرّت على قراءتها. تناقشت بالأمر مع خليل «جريج» وكان الرأي أنه غير مناسب، بل الأجمل أن تصبح الرسائل سيناريو فيلم. ومن المهم الإشارة إلى أنه تزامناً مع كتابتي لتلك الرسائل كان خليل «جريج» يلتقط الصور في مدينة بيروت كهواية، ولم يكن يُدرك أنه سيصبح يوماً مصوراً وفناناً. فعدنا إلى الصور ووجدنا أنفسنا بمواجهة مادة غنية تتميز بروعة لا تُصدق.
خليل: دفاتر جوانّا اطلعتني على قصص مختلفة عن تلك التي تداولناها. منها متى كانت السيجارة الأولى؟ والأهم هو العلاقة المتشنّجة مع الأهل في عمر المراهقة الصعب.
○ ما هو الخيط الدرامي الذي أمسكتما به لبناء السيناريو؟
•خليل: هو خيط درامي حقيقي ناتج عن رغبة ابنتنا بقراءة هذه الدفاتر، رأينا أنه غير مستحب ان تقرأها بمفردها، فهي لم تعش أيام الحرب. في حين أن لتلك الرسائل صدى. لهذا كان ضرورياً أن نخلق الإطار لتقرأ عليا الرسائل من ضمنه. بدأنا التفكير بكيفية إخبار قصص الماضي، والاحتفاظ بالوصل بين الماضي والحاضر.
جوانّا: اتجه السيناريو نحو الخيال، فنحن كعائلة نعيش في لبنان. فيما يرتكز السيناريو على فتاة ولدت خارج لبنان، تعمل لإعادة خلق عالم واقعي آخر من خلال تلك الرسائل. فالفتاة أعادت تصوير هذه الدفاتر عبر هاتفها وخلقت عالماً ثانياً. والسؤال ماذا سنفعل بهذا الماضي، وكيف لنا أن نعيش؟
○ نجحتما بالوصل بين الماضي والحاضر وخاصة من خلال الهاتف. بناء الوصل كان سهلاً؟
•خليل: ننتمي لجيل كانت فيه الصورة ذات أهمية بخلاف الحاضر. أرشيفي الخاص من الصور الفوتوغرافية يبلغ 60 ألفاً. في حين أنجزت ابنتي عبر «سناب شات» 60 ألف صورة خلال ستة أشهر. تحاورنا وسألتها: «ولو ما بتقدري تستغني لحظة عن التلفون»؟ لكني لاحظت أن جيلها ملتصق بالهاتف الذكي. ثمة اختلاف بين صورنا وصور الحاضر. نحن افتقدنا صورة الـ«سيلفي» وكانت علاقتنا بالجسد مختلفة. الهاتف جعل ابنتي على صلة بالواقع، تماماً كما كانت صلتي بالواقع مع الكاميرا، رغم اختلاف استعمال الصور ونوعيتها. ترك الفيلم المشاهد يعيش الحاضر والماضي، ولم يقل أحد بأفضلية صورة الماضي عن صورة الحاضر. بل قلنا أن الجيل الجديد وعبر استعماله للأدوات الحديثة أعاد تبني الماضي، ونظر إليه. أعادت الإبنة إحياء الصور، ولجأت إلى الزوم لرؤية أفضل خلال بحثها عنها في قبو المنزل. استمرار تأثير هذه الصور ينطلق من قوتها. ففي مشهد تحك الفتاة «ستيكر» الفريز الموجود على الصورة لتختبر استمرار الرائحة. صورة تخبر بأن صورة الماضي لا تزال مؤثرة في الحاضر.
جوانّا: هذه التفاصيل الصغيرة المتصلة بالماضي، تستدرج الجيل الذي عاشها إلى لذّة تذكرها، وكذلك خلق علاقة مع الجيل الجديد.
○ وصلت لغتكما السينمائية بحيوية وتطور كبير. هل نقول إن تجربتكما نضُجت جيداً مع «دفاتر مايا»؟
•جوانّا: خليل وأنا نعمل في الفن، ونرى في السينما قوّة يجب استخدامها لإخبار قصة ما. «دفاتر مايا» يخاطب الأجيال المختلفة، وفيه لذّة المشاهدة. يتضمن قوة ولغة سينمائية فنية تترك المشاهد يتمتع بما يراه. اشتغلنا على الصوت والصورة بتجدد، مما شكّل عاملاً جاذباً لمتابعة الأحداث. أنجزنا التصوير سنة 2019 واستمر العمل على المونتاج لسنة ونصف.
خليل: «دفاتر مايا» نوع من تحية حب لبيروت، وأيضاً للسينما وقوتها. فطريقة تقديم صور الماضي التي نكشتها الحفيدة في كندا أعادت إحياءها، وكذلك طريقة تقديمها الفني في الفيلم. وهذا مرتبط بتاريخ أدوات السينما وتطورها. لقد استخدمنا أدوات السينما من الماضي إلى اليوم تقديراً لتلك الأدوات ومحبة بها.
○ ماذا في كواليس اختيار الممثلين وكيف توجّه بحثكما؟
•خليل: من البدء كانت رغبتنا بالعمل مع الممثلة منال عيسى في دور «مايا» المراهقة. وثقنا بقدراتها رغم كونها الآن أماً. وبالبحث عن «مايا» الكبيرة، تذكرنا ريم التركي التي مثلت في فيلم «باب الشمس» ليسري نصرالله. لكنّ حدثاً حصل في حياتها اضطرّها للخضوع للتحليل النفسي، وتركت التمثيل وتخصصت في العلاج والتحليل النفسي. يظهر الدور امرأة غائبة عن ماضيها، وعندما تفتح مشاعرها وأحاسيسها نرى ما هو مهم للغاية. والصبية التي لعبت دور الحفيدة «أليكس» تمّ اختيارها بعد كاستنيغ لنعرف لاحقاً أنها ابنة يتيم لبناني مُتبنّى في كندا وهو موسيقي مهم. هذه الفتاة نشأت وكبُرت على حقيقة أصلها اللبناني، ولم تعد إليه مرّة. عودتها مع والدتها في الفيلم لأول مرّة لعب لصالحه.
جوانّا: ريم التركي «مايا» كانت السينما حلمها، لكنّ الظروف أبعدتها عنها. والحلم لا يُنسى. وفي أحيان قد يعود بنا أولادنا إلى أحلامنا، وحتى إلى بلدنا.
○ الحفيدة وعالمها وتواصلها مع أصدقائها وبحثها عن الذاكرة هل شكّل مدخلا لتواصلكما كمخرجين مع جيل الشباب المستهدف؟
•جوانّا: أكيد. الحفيدة هي الجيل الجديد الذي نتوجه إليه في مكان ما. إنها المستقبل الذي يبحث عن الماضي وفق أسلوبه الخاص. ليس لديها حنين للماضي، فهي لا تعرفه، لكنها ستعيد خلقه. عملياً نحن لا نكلّم أبناءنا وأحفادنا عن قصص الماضي، لكنّ اسئلتهم متلاحقة، ويرغبون بفهم كافة التفاصيل المؤثرة في حياتهم.
خليل: «دفاتر مايا» فيلم مهم لمن اغتربوا بفعل الحرب. في مكان ما حياة هؤلاء المغتربين «عملت بّوز» وقد يصح تسميتها ولادة جديدة. السؤال الذي يلاحق الجيل الجديد ما هو الحدث الذي أدى لهذا التغيير في الأشخاص. القطع الذي لمسته الحفيدة بين ماضي والدتها وحاضرها حفّزها للسؤال والبحث عن هذا الماضي.
○ لماذا قرار إقصاء السياسة كلياً عن الفيلم؟
•جوانّا: عندما أعدنا قراءة الدفاتر التي كتبتها كفتاة بين 13 و18 سنة لم تكن السياسة تهمني، بل الخروج من المنزل. المحرّك الأساسي للقصص المدونة أو الأحداث يتركز على عوامل منعي من السهر ليلة السبت أكان قصفا أو سواه. والمانع من العودة إلى المدرسة، وترك بيروت إلى القرية. عشنا السياسة لكنها لم تكن موجودة في دفاتري. كتبت لصديقتي قصصاً شخصية، وليس صحيحاً إقحام التاريخ في هذا الفيلم. نلمس في الفيلم حياة الأهل في تلك المرحلة، والعائلات تحتمي بالملجأ خلال القصف، وبعده تعود إلى الحياة الطبيعية. فشكل الحياة مع الحرب كان عادياً. كشباب كنا نرغب بأن نعيش حياتنا، لكنّ القصف المرتبط بالسياسة كان يمنعنا من ذلك.
○ كان سهلاً إقصاء السياسة لصالح الرومنسية؟
•جوانّا: في مكان ما الفيلم «مُسيس» فهو يخبر ما عشناه. يخبر قصص الشخصيات وبطريقة غير مباشرة يتحدّث عن الاختيارات في حياتهم. على سبيل المثال «رجا» صديق «مايا» انضمّ للمقاتلين، وهي لم توافق على دخوله الحرب الأهلية.
خليل: كنا حيال شكل الحياة والمجتمع المدني الذي ذوّبته الحروب الأهلية بالتدريج، وأخفته. فالأحزاب المتقاتلة بدأت تتسلل إلى أمكنة التعليم الذي زمّ بدوره. وهذا كان السبب المباشر في قتل الأب رجل التربية والتعليم.
○ بأي هدف جاءت العودة إلى المكان الأول لـ«مايا» برفقة ابنتها؟
•خليل: حين اصيب منزلنا وتدمّر كلياً في انفجار المرفأ تدفق الناس لمساعدتنا، وأكثرهم لا نعرفهم. مع هؤلاء نشأت صداقات ولا تزال مستمرة. هذا ما يميزنا كشعب. وطننا يتدهور على كافة الأصعدة، إنما علاقاتنا الوطيدة مستمرة. نحن كفردين نحافظ على صداقاتنا ومنها تلك التي تعود للطفولة. فجوانّا التقت صديقتها بعد 25 سنة.
جوانّا: «مايا» تركت لبنان ووضعت بينها وبينه مسافة شاسعة، وكذلك مسافة بينها وبين نفسها، وبين كل ما كانت تحبه. اخترعت لذاتها شخصاً آخر لتتمكن من التأقلم. اندفاع ابنتها حفّزها كي تعود إلى لبنان. ولم يكن وارداً مطلقاً أن لا تعود «مايا» إلى لبنان.
خليل: ليس في الفيلم نوستالجيا وحنين للماضي. فهي تعود ومنزلها غير موجود، ومكانه ارتفع بناء شاهق. ذهبت إلى المدافن وأضاعت قبر أخيها ووالدها. بقي لها الأصدقاء فقط.
○ لبنانيون بالآلاف يحتاجون لجمع شتات الذاكرة هل سيحفّزهم «دفاتر مايا» على الإقدام؟
•جوانّا: جلنا كثيراً مع الفيلم، من كندا ولشبونة والبرتغال. جمعت الصالات أجيالاً من الذين هاجروا في الثمانينيات وبعدها، أو حتى حديثاً. نصنع الأفلام بهدف بناء علاقات مع جمهور، وعلاقات بين أجيال.
○ هل فاجأكما نجاج الفيلم في المهرجانات؟
•خليل: إنه تمنّي يرافقنا مع كل فيلم جديد. يُعرض الفيلم بالتزامن مع جائحة كورونا، والتدهور الاقتصادي في لبنان. لكن ثمة عاطفة تتدفق من الجمهور. برأينا مهما حدث، فالمهم أن العاطفة لا تزال موجودة. يحكي الفيلم لحظة زمنية محددة وهي لا تزال تحمل صدى. وهذا جميل.
جوانّا: حقق الفيلم صدى قويا جداً. ربما كما ذكرتِ أنه يتحدّث بلغة سينمائية عالية. قصته تمسّ كثيرين وبطريقة مختلفة بين متلق وآخر. منهم من يرى ذاته في تلك المرحلة، وقد يرى الأهل علاقتهم بأبنائهم. لغة الفيلم تتمتع بلذّة المتابعة والفرح الذي يحصده المشاهد.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية