المدّ الشعبوي ضد الإجماع النخبوي

تعرض هذه الأيام في لندن مسرحية من اقتباس الشاعر البريطاني ـ النيجيري بن أوكري لرواية «الغريب». وقد لاقت المسرحية إقبالا جماهيريا واستحسانا نقديا ليس لأن بن أوكري كيّف نص الرواية الفرنسية تكييفا تفوح منه مختلف المؤثرات النابعة من خصائص الواقع الاجتماعي والثقافي البريطاني فحسب، بل ولأن ألبير كامو بالذات أديب محبوب لدى القرّاء الأنغلوساكسون، حيث يفضّله معظمهم على خصمه السياسي والأدبي جان بول سارتر.
وقد تحادثت بهذه المناسبة مع مجموعة من المثقفين البريطانيين والأستراليين عن «الغريب» وعن وجه القول بـ»جزائريتها»، وتشعب الحديث حتى أفضى إلى رائعة كامو الأخرى، «الطاعون»، فإذا بي أفاجأ بأن جميعهم يعرفونها بالتفاصيل. وقد عبروا عن الإعجاب عندما قلت لهم إن الفنان المسرحي الفرنسي فرانسيس هوستر ظل يقدم، لمدة ست وعشرين سنة (بدءا من عام 1988)، عرضا مسرحيا مقتبسا من «الطاعون» وإن الجمهور قد أتيح له مشاهدة هذا العرض ألف مرة (!) في بلدان متعددة، بما فيها الولايات المتحدة. وخضنا في التعدد والتجدد في تأويلات الطاعون روائيا: فإذا كان ما قصده كامو في الأربعينيات هو التوتاليتارية (النازية والفاشية والشيوعية)، فإن هوستير رأى أن الأيدز هو الطاعون المقصود في الثمانينيات، وأن فوضى الرأسمالية الوحشية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي هي طاعون التسعينيات، وأن القاعدة هي طاعون العقد الأول من هذا القرن وداعش طاعون العقد الثاني. ولهذا كان من الطبيعي أن نتساءل عن طاعون الأعوام القادمة وأن تجيب الأغلبية بأنه يتمثل في الشعبوية التي بدأت تجتاح عددا متزايدا من البلدان الغربية، والتي أفضت إلى بروز أنظمة الديمقراطية اللاّ ـ ليبرالية التي سبق للباحث بيار هاسنر أن سماها «الديمقرا ـ تورية». وهي أنظمة حكم هجين بين الديمقراطية مظهرا والدكتاتورية جوهرا، أي أنها أنظمة حكم تلفيقي قاتلة للحريات، ولكنها حريصة مع ذلك على تنظيم الانتخابات.

طاعون الأعوام القادمة يتمثل في الشعبوية التي بدأت تجتاح عددا متزايدا من البلدان الغربية

وإذا كانت الشعبوية الجديدة قد صارت تمثل خطرا حقيقيا على الحريات في عقر البلدان العريقة في الليبرالية، مثل بريطانيا وأمريكا وفرنسا وهولندا، فلا شك أن الخطر أدهى في البلدان القريبة العهد بالاستبداد مثل ألمانيا والنمسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال واليونان، وفي بلدان أوروبا الوسطى والشرقية التي لا عهد لها بالليبرالية إطلاقا مثل المجر وبولندا ورومانيا وبلغاريا وسلوفاكيا. ولا شك أيضا أن الأجانب في كل بلد أوروبي، وخاصة منهم السود والعرب والمسلمون، سيكونون أول ضحايا هذه الردة اليمينية. إذ إن طرد الأجانب عن بكرة أبيهم (على نحو ما فعل الإسبان مع المسلمين واليهود قبل خمسة قرون) ليس مجرد سيناريو خيالي، بل إنه احتمال وارد لو أن قوى اليمين حققت وصولا متزامنا إلى الحكم في كثير من البلدان. إلا أن كل هذه الأخطار الفعلية المحدقة بالأوروبيين وبنا معهم لا ينبغي أن تمنع من فهم الأسباب الموضوعية لصعود اليمين الشعبوي.
ويمكن اختصار هذه الأسباب في نقطتين: أولا، أن العولمة قد أضرت بالطبقات العمالية في البلدان الغربية بالغ الضرر. فقد ثبت الآن أن العولمة تخلّف ضحايا، وأن هؤلاء الضحايا هم، في المقام الأول، عمال القطاع الصناعي في البلدان الغربية. ورغم أن العولمة عادة ما تصور على أنها قدر تاريخي محتوم لا رادّ له، فإن الحقيقة أنها ترجمة لما يعرف بـ«إجماع واشنطن» (إجماع نخبوي على مسلمات ايديولوجيا النيوليبرالية)، أي أنها نتاج لقرارات سياسية اتخذتها إدارة بيل كلنتون بالتنسيق مع مؤسسات مثل البنك العالمي، وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية.
أما النقطة الثانية، فهي أن بعض الشعوب بدأت تضيق ذرعا بالقيم «الدخيلة» المفروضة عليها فرضا من الخارج (وخاصة من الاتحاد الأوروبي والمنظمات الدولية)، مثل وجوب إيواء جميع اللاجئين واستيعاب جميع المهاجرين، وقبول التعددية الثقافية، والمثلية الجنسية، والإلحاد، والنسوية، وحماية البيئة، والإنجاب خارج إطار الزواج، الخ. وهي قيم يرى اليمين أنها نذير انهيار حضاري لأنها تناقض قيم الديانة المسيحية، بما فيها حرمة العائلة وهيبة السلطة وتكافل المجتمع وتراحم الأجيال.

٭ كاتب تونسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    تعليقا على العنوان (المدّ الشعبوي ضد الإجماع النخبوي) كما يحق لك أن يكون لك رأي في النظام البيروقراطي، أظن من حقي أن يكون لي رأي خاص بي في النظام البيروقراطي يختلف عنك، فأنا أرفض أن أكون من شلة (معاهم معاهم…عليهم عليهم) لعقلية موظف النظام البيروقراطي في دولة الحداثة، ويصبح كل همي تبرير رأي المسؤول (الكاتب) أو أخذه على قدر عقله، كي استلم راتبي آخر الشهر كاملا، لأن من وجهة نظري عنوان (هل اللغة أداة تواصل حقا) مستفز عن عمد وقصد، أي هو تطبيق عملي لمفهوم، أو فلسفة (الغاية تبرر الوسيلة)،

    عملية التشكيك هذه، تؤدي إلى زيادة تكاليف أي منتج، في أي مهنة من المهن، وليس فقط المهن اللغوية، وتجعلك تخرج من المنافسة الاقتصادية، لماذا؟

    وأهم شيء معرفة لماذا، لأن على أرض الواقع، الفكر شيء له علاقة بالأنا (يمكنك أن تتصرف به كما تشاء)،

  2. يقول S.S.Abdullah:

    ولكن اللغة إن كانت لساناً (علم الكلام) أو تدويناً (علم اللغة) أو ترجمة (العولمة التجارية)، فلها علاقة بالآخر والنحن كأسرة أو شركة أو دولة (أي لا يمكنك عمل شيء بدون تنسيق مع الآخر والنحن كأسرة أو شركة أو دولة)،

    ومن له رأي آخر هو حر به، ولكنه سيكون خارج المنطق والموضوعية وسيؤدي إلى إفلاس الإنسان والأسرة والشركة وبالتالي الدولة اقتصاديا في أجواء العولمة والإقتصاد الإلكتروني، لأن من وجهة نظري على الأقل. وبعد قراءة ما تم كتابته أسفل العنوان (هل اللغة أداة تواصل حقا) أحب أن أضيف،

    التواصل والاتصال من خلال الآلة مع الآخر والنحن، بيّن لي هناك أبعاد جديدة، للغة، والحوار، والاتصال، والتدوين، وعملية الفهم، وما ينتج من ردات فعل والإنتاج على ضوء عملية الفهم،

    تختلف اختلاف كلي عن كل خبرتنا وجها لوجه بعيدا عن الآلة أو من خلالها،

    وهذه تتطلب من وجهة نظري مناهج تعليم وتأهيل وتدريب جديدة خصوصا في موضوع حوكمة الحكومة الإليكترونية،

    لو أردنا حلول لمشاكل المسلمين في الصين عام 2018 الناتجة عن الترجمة الآلية للغة تواصلهم، من خلال أدوات العولمة والإقتصاد الإلكتروني مثلا.

إشترك في قائمتنا البريدية