على أونا على دو على تري.. وتنهي المطرقةُ العد بحسم يقطع الأنفاس، هذا المشهد السينمائي الساحر هو تماماً ما يحصل في دور المزادات العالمية التقليدية.
uno-Due-tre، هو واحد، اثنان، ثلاثة باللغة الإيطالية، وربما تستخدم هذه الكلمات باللغة الإيطالية باعتبار أن أشهر مزاد معروف تاريخياً كان عندما استلم السلطة الإمبراطور بيرتناكس بعد اغتيال كومودس عام 193م وقام ببيع كل ما ملأ به الإمبراطور السابق كومودس القصر الإمبراطوري من ذهب وفضة وحرائر وأقمشة مطرزة وجوارٍ حسان، ما ضيق الخناق على الحرس البريتوري، فاغتالوه وبعد ذلك أقاموا المزاد الأشهر على المنصب الإمبراطوري الشاغر، وعلى الأغلب قد أنهوا مزادهم بالعد إلى ثلاثة، ثم أرخوا المطرقة على حجرٍ كبير.
لم تكن طريقة المزايدة جديدة فالرومان كانوا يبيعون غنائم الحرب في مزاد علني وكذلك العبيد المأسورين ويعود ريع المزادات للمجهود الحربي. ويذكر هيرودت المؤرخ الإغريقي أن بعض المزادات كانت تُقام من قبل الأسر الإغريقية، ويتم عرض البنات للزواج وفق مزاد، من يدفع أكثر ينال العروس الأجمل. فالمزاد ظاهرة موجودة قبل الميلاد واستمر في الوجود بصيغ متنوعة، إلا أنه لم يظهر بصيغته الحالية إلا في عام 1674عندما أسس البارون كلايس رالامب، داراً للمزادات في السويد- ستوكهولم. وفي منتصف القرن الثامن عشر تقريباً في عام 1766 تأسست دار كريستيز Christie’s، أشهر دار للمزادات في العالم، أسسها الأسكتلندي جيمسي كريستي ولها 54 مكتباً حول العالم، و12 صالة عرض في أهم المدن: لندن، نيويورك، باريس، جنيف، ميلان، أمستردام، دبي، زوريخ، هونغ كونغ، شنغهاي، حيث تنظم فيها مئات المزادات سنوياً بين ما يقارب ثمانين فئة مختلفة، ما بين فنون جميلة، مجوهرات، أحجار ثمينة، صور فوتوغرافية، مقتنيات شخصية، إلخ؛ وفي عام 1796 انفصل موظف كبير عن دار كريستيز اسمه هاري فيليبس، وأسس دار مزادات خاصة به (فيليبس).
أما دار سوثبيز Sotheby’s فقد بدأت نشاطها عام 1744 عندما قام مؤسسها صموئيل بيكر بائع الكتب، بالإشراف على التخلص من بضع مئات من الكتب القيمة والنادرة من مكتبة أحد معارفه، الذي كان قد ورثها، فأقام مزادات لتسويقها، وبعد وفاته تابع العمل جون سوثبي ابن أخته، وسميت بسوثبيز وبدأ نجمها بالسطوع، ولها ما يقارب 90 موقعاً في العالم، وتعتبر الأهم في تحديث صناعة المزادات من خلال برنامج bidnow عبر الإنترنت الذي يسمح بالمشاركة في المزادات عن بعد، وتقدم خدمة تمويل فني متكامل عن طريق ذراعها المالي «سوثبيز للخدمات المالية» فعملها موزع ما بين المزادات والبيع المباشر والتمويل. وتعتبر دار بونهام Bonham التي تأسست في لندن 1793 من دور المزادات ذات السمعة الطيبة ولها مندوبون في 25 دولة. وكالعادة لا ترضى الصين أن تبقى خارج سوق العمل، لذا لحقت بركب سوق المزادات وأسست china guardian عام 1993، ورغم حداثة هذه الدار إلا أنها أثبتت نفسها، خاصة في مجال بيع الخزف الصيني ولوحات الحبر الصيني والكتب النادرة من الحضارات الآسيوية.
ما هو المزاد وأنواعه
يعتبر المزاد أحد طرق بيع البضائع، بآلية خاصة تعتمد على تقديم عروض أسعار ويحصل على السلعة من يدفع أكثر عبر مزايدة تدور ما بين المشترين إلى أن ينتهي وقت المزاد.
في ما سبق كانت الشموع تستخدم لتحديد زمن المزاد في بعض أجزاء إنكلترا في الفترة ما بين القرنين السابع عشر والثامن عشر، إذ يُشار إلى نهاية المزاد بنهاية لهب الشمعة، فلا يمكن لأحد أن يعرف متى سينتهي المزاد، ليُقدم عرضه المُزايد في الثانية الأخيرة، وقد استُخدمت أيضاً طرق أخرى لا يمكن التنبؤ بنهايتها مثل أثر القدم الذي يطبع على مادة معينة ويتلاشى تدريجياً حتى ينمحي معلناً نهاية المزاد؛ أما اليوم فللمزاد وقت واضح يستطيع المزايد التحكم بتوقيت عرضه بدقة. وللمزاد نوعان أساسيان، مزاد علني ومزاد مغلق:
– المزاد العلني:
مزاد السعر الأول ويعتبر هذا النوع الأكثر شيوعا في إنكلترا، وتكون غالباً السلع من اللوحات الفنية والتحف النادرة والكتب النفيسة وغيرها. يفتتح المزاد بأقل سعر يرغبه مدير المزاد، وتبدأ المزايدة، وتستمر حتى تتوقف العروض، وعند هذه النقطة يتم إغلاق المزاد ويتسلم المزايد النهائي السلعة بسعر مزايدته. وهناك مزاد يعرف بالمزاد الهولندي وهو مزاد السعر الأول الآخذ في الانخفاض، يبدأ فيه البائع بسعر مرتفع، ثم يخفض السعر تدريجياً وحين ينادي المزايد الأخير «ملكي» ينتهي المزاد ويتسلم العارض السلعة بالسعر الذي طرحه.
– المزاد المغلق
مزاد السعر الأول المختوم يقوم فيه كل مشارك بتقديم عرض واحد ضمن ظرف مغلق، بعدها يتم فتح جميع الظروف ليعلن عن أعلى سعر. وله نوع آخر يسمى مزاد السعر الثاني المختوم يقدم المزايدون عروضهم في ظروف مختومة، ويفوز صاحب أعلى مزايدة، لكن بالسعر الذي قدمه ثاني أعلى مزايد؛ ونادراً ما يتم استخدام هذا النوع من المزادات.
أغرب ما تم بيعه في دور المزادات
تتنوع السلع المباعة في المزادات وتتأرجح ما بين ضخامة عقارٍ سكني، وخفة ورقةٍ موقعة، إلا أن أهم ما يسلط الضوء عليه إعلامياً في هذا المجال هو بيع التحف النادرة واللوحات الفنية والنفائس من المجوهرات والأحجار الكريمة، لكن سوق المزادات تتسع لتشمل أكثر الأشياء غرابة، وسنورد هنا أمثلة من شأنها جعلك ترفع حاجبيك باستهجان متسائلاً هل هذا حقيقي، وهل حقاً هناك من يشتري هذه الأشياء! بالطبع لم ينجُ الرئيس الأمريكي إبراهام لينكولن من حادثة الاغتيال التي تعرض لها خلال حضوره المسرح في تاريخ 14 نيسان/إبريل عام 1865، إلا أن خصلةً من شعره بطول 5 سم كان قد انتزعها الجراح الذي حاول إنقاذه، نجت وبيعت بـ81 ألف دولار في مزاد في مدينة دالاس ولاية تكساس؛ وكذلك نجا بيت كلب يدعى روكي من حجرٍ نيزكي أصاب منزلاً في إحدى مدن كوستاريكا ودمره بالكامل في 22 أبريل 2019، ليُنظم لاحقاً مزاد من قبل دار كريستيز بيع فيه الحجر بمبلغ 21420 دولاراً، كما بيع بيت الكلب روكي مقابل 44 ألف دولار؛ وبعدما باعت كريستيز جزءاً قادماً من الفضاء، لحقتها سوثبيز وباعت ثلاثة صخور من القمر، جلبتها البعثة الفضائية السوفييتية (لونا 16) وبيعت بقيمة 855 ألف دولار. وقريباً من الحجارة قليلاً بيع طقم أسنان بـ19 ألف يورو – في مزاد علني أقيم في لندن – كان يستخدمه السير ونستون تشرشل أثناء خطاباته الإذاعية للبريطانيين إبان الحرب العالمية الثانية. أما جون لينون – أحد اعضاء فرقة البيتلز- فقد عُثر على مرحاضه وأقيم مزاد علني في ليفربول وبيع بـ 15 ألف دولار. والأغرب على الإطلاق بيعت أول رسالة نصية قصيرة في العالم كرمز غير قابل للاستبدال (NFT) مقابل 150 ألف دولار، في مزاد علني أُقيم في دار أغوتيس باريس.
نص الرسالة: «Merry Christmas» (ميلاد مجيد) أرسلها المبرمج البريطاني نيل بابوورث من جهاز حاسوبه الخاص إلى مدير شركة «فودافون» (شركة الاتصالات السلكية واللاسلكية) آنذاك ريتشارد جارفيس، بتاريخ 3 كانون الأول/ديسمبر عام 1992؛ وهذه الصفقة تفتح الباب على مصراعيه أمام بيع الأعمال الافتراضية، والمفاهيمية لاحقاً في المزادات.
الفنانون العرب بالطبع ليسوا خارج المعادلة، وإن كان حضورهم خجولاً مقارنةً بأقرانهم، ووجودهم على خريطة المزادات الفنية العالمية يزداد قوةً، من خلال فتح فروع لأكبر دور المزادات في دولنا العربية، ومن خلال المشاركة في المزادات المعقودة في لندن ونيويورك وباريس
اللوحات في المزادات العالمية
وبالعودة إلى أهم نوع من المعروضات في المزادات العالمية وهي اللوحات الفنية نلاحظ أن لوحات عصر النهضة لها حصة الأسد في سوق المزادات، لما لها من قيمة تاريخية مضافة لقيمتها الفنية، ما يجعلها تحقق أعلى الأسعار، فمنذ خمس سنوات بيعت لوحة «المسيح» لدافينشي بـ450 مليون دولار في مزاد نظمته دار كريستيز 2017 وهي أعلى قيمة تسجل للوحة فنية بعد أن كانت لوحة «نساء الجزائر» لبابلو بيكاسو في الصدارة وهي المباعة بمبلغ 179.4 مليون دولار في عام 2015 في مزاد لكريستيز أقيم في نيويورك، لكنها بقيت الأعلى سعراً للوحة فنية من القرن العشرين حتى عام 2022 حين عقدت دار كريستيز مزاداً عرضت فيه بورتريه للنجمة الأمريكية الراحلة مارلين مونرو رسمها فنان البوب آرت آندي وارهول في الستينيات من القرن الماضي، تحديداً عام 1964 وزاحمتها على الصدارة عند بيعها بمبلغ 195.04مليون دولار، وبذلك أصبحت «شوت سيج بلو مارلين» أو «لقطة لمارلين الزرقاء الرزينة» أغلى لوحة من القرن العشرين تباع في مزاد.
الفنانون العرب بالطبع ليسوا خارج المعادلة، وإن كان حضورهم خجولاً مقارنةً بأقرانهم، ووجودهم على خريطة المزادات الفنية العالمية يزداد قوةً، من خلال فتح فروع لأكبر دور المزادات في دولنا العربية، ومن خلال المشاركة في المزادات المعقودة في لندن ونيويورك وباريس، بالإضافة لتخصيص مزادات لفنون الشرق الأوسط المعاصرة؛ فقد تصدرت لوحة «بائع البطيخ» لجواد سليم في مزاد فنون الشرق الأوسط الحديثة والمعاصرة الذي أقامته كريستيز في لندن عام 2017 بمبلغ 876731 دولاراً وهو ضعف القيمة التقديرية للعمل، ومثلها لوحة «الدراويش» لمحمود سعيد التي تربعت في قمة مبيعات مزاد كريستيز المقام في دبي 2010، بمبلغ 2546000 دولار وتعتبر أغلى لوحة مصرية بيعت في تاريخ المزادات، وإلى اليوم ما تزال أعمال محمود سعيد تتصدر المزادات وتلقى اهتماماً عالمياً.
وفي 2019 أقامت دار سوثبيز مزاداً لبيع الأعمال الفنية البارزة في منطقة الشرق الأوسط خلال القرن العشرين في العاصمة البريطانية لندن، جمعت ضمنه أعمالا تشكيلية لفنانين عرب من الإمارات والسعودية والعراق ومصر ولبنان وفلسطين، حققت لوحة الفنان الإماراتي حسن شريف 56599 دولارا، بينما بيع عمل للفنان السعودي محمد السالم بـ97028 دولارا. في المقابل بيعت لوحة الفنان العراقي ضياء العزاوي بمبلغ 29380 دولاراً، وتم تحقيق رقم قياسي للرسامة والشاعرة الأمريكية من أصل لبناني إيتيل عدنان، التي بيعت لوحتها الزيتية العائدة لستينيات القرن الماضي بمبلغ 137171 دولاراً وهو ما يعد أكثر من ثلاثة أضعاف السعر المتوقع. وأوضح غيبس – رئيس سوذبيز في الشرق الأوسط والهند- في أحد حواراته إنه أمر رائع أن نلاحظ اكتساب الفن والفنانين من الشرق الأوسط هذا التقدير الكبير أكثر من أي وقت مضى، ما يعكس الانجذاب العالمي الحقيقي لهذه المنطقة في السوق.
إذن عالم المزادات هو سوقٌ حقيقي للفن، يجمع بين اعتبار الفن سلعة تباع وتشترى ويحدد لها سعر مناسب، وفقاً لمواصفاتها وميزاتها، ووضع الأعمال الفنية المعاصرة في مصاف النفائس من الجواهر والتحف والنوادر في العالم؛ لذا صار المستثمرون يدركون أهمية العمل الفني وينظرون له كأمانٍ حقيقي يحصلون عليه مقارنةً بتذبذب أسعار صرف العملات، والانهيارات التي تشهدها الاقتصادات العالمية، وقد أدى هذا الوعي المتزايد على ارتفاع الطلب على الأعمال الفنية بشكل عام، وقد لمس نائب رئيس مجلس إدارة كريستيز الشرق الأوسط وشمال إفريقيا» رضا المومني، ارتفاعاً في طلب اللوحات الفنية من منطقة الشرق الأوسط بنسبة تقارب 30% خلال العام الجاري. ويفضل المهتمون بالفن الحصول على الأعمال الفنية من خلال المزادات العالمية، لأسباب كثيرة أولها معرفتهم بأنهم يحصلون على عملٍ فني مهم يستطيعون بيعه في المزاد، حينما يريدون وسيحصلون على ثمن يفوق ما دفعوه لأجله غالباً، الأمر الآخر وجود لجان خاصة للتحقق من أصالة العمل الفني والابتعاد عن الأعمال المزورة التي يعتبر عددها في المزادات العالمية قليلا جداً مقارنةً بسوق الأعمال الفنية في الغاليريهات وعند المقتنيين، لذا ستبقى المزادات المعقودة في دبي، لندن، باريس أو نيويورك من أهم الأسواق للأعمال الفنية، وحلماً لأي فنان بأن يرى عمله – وهو على قيد الحياة طبعاً- متصدراً لقاعة المزادات ويسمع أصوات المزايدين من كل أنحاء العالم، تتعارك في فضاء المزاد، لتنجح بأن تفوز بعمله بعد أن ترن المطرقة وتوقظه من حلمه.
كاتبة سورية