إن المسألة اليهودية في صحراء توات الجزائرية، أسالت حبراً كثيراً، شرقاً وغرباً، وفق زاوية النظر والمنحى الأيديولوجي، بالخصوص بعد ظهور فتوى الشيخ المغيلي (محمد بن عبد الكريم 1427-1503) في سنة 1477 التي طردت بموجبها الجالية اليهودية من منطقة توات وتمنطيط حيث تمركزهم، وهُدم كنيسهم الذي بنوه، وأحلت الفتوى قتلهم، وهو ما شغل الكثير من الباحثين، الأجانب على وجه الخصوص (ألفريد جورج بول مارتن: الواحات الصحراوية قورارة، توات وتيدكيلت). السبب الذي اعتمده الإمام المغيلي هو خروج اليهود عن الطاعة الموجبة لهم بوصفهم «أهل ذمة»، واستيلاؤهم على طرق التجارة العابرة من الصحراء الجزائرية حتى فاس، والتحكم في الفقارات ومنابع المياه، والسيطرة على كل مناحي الحياة، فأصبحوا هم السادة، إضافة إلى الاعتداءات المتواترة ضد التواتين من المسلمين. أغلب اليهود القاطنين في المنطقة الصحراوية هم من اليهود الذين هربوا من محاكم التفتيش المقدس في الأندلس، في شكل موجات متتالية منذ سقوط طليطلة وأخيراً غرناطة، وهي الحقبة التي عاشها الإمام المغيلي عن قرب بين الدولتين الزيانية والمريبنية في تلمسان، ثم الهجرة إلى صحراء توات. فقد رأى عن كثب كيف استولى اليهود على المهن الأساسية لدرجة السيطرة الكلية عليها، الذهب والتجارة والصناعات الأخرى، والماء الذي يعد أكثر من الذهب في الصحراء نظراً لندرته وحاجة السكان إليه. لهذا كانت فتوى الإمام المغيلي في شكل ردة فعل سريعة من وضع وجده أمامه، كان يستفحل كل يوم أكثر، فحسم الأمر بالطرد والقتل أحياناً، وتحويل الكثير من الكنائس اليهودية في توات إلى مساجد: قصر أولاد هارون، قصر أولاد با موسى، قصر يوسف أو بالأمازيغية أغام أنزوف، الذي بنى فيه سوقه المعروفة التي ربطت توات بالأقاليم المحيطة.
لكن المشكلة الكبرى هي انهيار التجارة كلياً في المنطقة الصحراوية، فكانت النتائج وخيمة بالمعنى الاقتصادي؛ لأنهم كانوا يسيطرون على كل شيء. فقدت فجأة منطقة توات مركزها الأساسي كمكان عبور آمن لقوافل التجارة العابرة للصحراء التي كانت تأتي محملة بالذهب والسلع النفيسة من أسواق غرب إفريقيا، وهو ما جعل التجارة تزدهر. ثم إن احتلال البرتغاليين لكثير من الموانئ الإفريقية والعربية زاد الطين بلة، فأصبحت الطرق البحرية أكثر أهمية وأماناً من الطرق البرية التي كانت تكتنفها الكثير من المخاطر. فقد أنشأ البرتغاليون بحرية متحركة بقوة على السواحل العربية والإفريقية J.D.Fage: A history of West Africa) ) بالخصوص بعد استكشافات هنري الملاح Henry the navigator . هذه التفاصيل مجتمعة، على قيمتها، معروفة عموماً من الناحية التاريخية.
الذي شغلني شخصياً، في قراءتي للمسألة اليهودية والشيخ المغيلي، ليس ما ذكرته، فهو معروف لدى المختصين وبعض المهتمين، بل شيء آخر مر عند المؤرخين وحتى المختصين وكأنه لم يكن أو ليس جديراً بالاهتمام. وهو أمر غريب.
أفهم الباحثين الغربين المرتبطين في أغلبهم بمسألة معاداة السامية، في إطار الحروب الدينية وتصارع الأيديولوجيات، أن يبينوا فقط الجزء الأكثر عنفاً عند المسلمين في العلاقة مع اليهود، أي فتوى الشيخ المغيلي، لكن لا أفهم صمت المؤرخ العربي في مسألة حساسة وحادة كهذه، فقد وقف الكثير من الفقهاء على الطرف النقيض من رؤية الإمام المغيلي، ما اضطر كل طوف الاستئناس بفقهاء الفترة، رغبة في معرفة الرأي الشرعي فيما ذهب إليه الشيخ في فتواه.
وقد ساجلت مجموعة من الأئمة رأي الإمام، وبينوا عدم صواب موقفه، ومن بين هؤلاء شخصية وازنة في منطقة توات جاءها من تلمسان أيضاً، مثل المغيلي، واستقروا هناك، الشيخ عبد الله بن أبي بكر العصنوني، قاضي توات الذي وقف بصرامة وبالحجة ضد الفتوى، وكان قد استفتى أئمة كثراً ساروا في خط التحريم؛ فقد منع هدم المعابد اليهودية اعتماداً على أصول الشريعة وقواعدها، ورأى في ذلك فعلاً ظالماً، وثمة نصوص فقهية اجتهادية سابقة في مثل هذه الوضعية الشبيهة. فقد ذكر بأن يهود توات ظلوا ملتزمين بمقتضيات «عقد الذمة» الذي يضمن حقوقهم، ولهم الحق في حرية أداء شعائرهم، بالخصوص أن توات حمت الموجات اليهودية الهاربة من الاضطهاد المسيحي الكاثوليكي بسبب محاكم التفتيش المقدس التي أحرقت الكثير من علمائهم، بالخصوص في طليطلة.
هناك شخصية تلمسانية أخرى، وازنة، كان لها وجهة نظر قريبة من رأي القاضي العصنوني، وهو ابن زكري التلمساني الذي استفتي في وجوب نزع صفة «أهل الذمة» عن يهود توات وتمنطيط؟ ووصل إلى نتيجة تحريم كافة علماء الإسلام قتال الذميين. فهم لم ينقضوا العهد، فلهم ما للمسلمين من حق، وعليهم ما على المسلمين من شروط يجب احترامها. فهدم الكنائس بلا حق ظلم لأهل الذمة، ولا يجوز شرعاً. وسار على مسلكه أئمة كثر. وهناك أمثلة كثيرة تبين السجالية الكبيرة التي كانت موجودة في صحراء توات بين مختلف الأطراف.
المؤسف هو أن المؤرخين لم يأخذوا بوجهة النظر لمجموعة الشيخ العصنوني الذي جمع حوله الكثير من فقهاء فاس وتلمسان وتونس وبجاية والجزائر العاصمة، ومحاولة فهمها وتطويرها واعتبارها وجهة نظر تستحق الاهتمام، وعدم الاكتفاء بالحصانة الدينية التي تعتمد على الاحتساب. فلم يكن الشيخ المغيلي شخصية عادية، فقد كان عالماً من علماء العصر رافضاً للظلم، ما اضطره إلى مغادرة تلمسان في عهد الخليفة الزياني المتوكل، ولا نازلة اليهود عن هذه المظلمة التي حملها معه من تلمسان. فقد أثر بقوة في المنطقة وإفريقيا بإدخال التعليم وتهذيب الأخلاق في تلك المناطق ومناصرة العقل. يكفي أن نعرف أنه ساجل السيوطي نظمياً، الذي ظل رهين رؤية ابن تيمية حول إجازة استعمال المنطق وتحليله. الشيخ المغيلي اعتبره آلة من آلات العقل، لهذا وجب العمل به.