رسم صناع السياسة خططهم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بواسطة مظلة القوة والإكراه، توازيا مع تحول العالم الصناعي إلى اقتصاد قائم على النفط بالدرجة الأولى، ما يُفسر تفاقم النزاعات الدولية خاصة في منطقة الشرق الأوسط، التي ترغب القوى الكبرى في السيطرة عليها، وإلى الآن تُصارع الولايات المتحدة المتغيرات الدولية والمنافسين الاستراتيجيين لضمان السيطرة على هذه الجغرافيا التي تتمتع بثروات طائلة، وتوفر أهمية استراتيجية لا تضاهيها أي رقعة جغرافية أخرى في أي مكان من العالم الآهل.
وخلف مقولة العولمة والقرية الكونية يُعاد من جديد إخراج مشهد الاستعمار التقليدي بين المرشدين الدوليين والزبائن، وعماده التنافس الاقتصادي والمصالح النفطية والمناورات الجيوسياسية، وفي الأثناء تُلغى «الإقليمية» بصفتها مبدأ تنظيم المجتمع ونوازعه الثقافية، وتُصبح المجتمعات بفعل تأثير العولمة الثقافية والسياسية والاقتصادية، معرضة لموجات مُتقلبة، ولقوى لا تستطيع التحكم فيها، ولا سلطة لها عليها. ويتجلى عجز الدولة الوطنية وفشل التجاوب مع معطى العالمية ورهاناتها، وتحديات السوق والتقنية، أمام صراع المصالح وتوازن القوى. وهذا النظام المتردي الذي تعجز فيه الإنسانية عن خلق عدالة اجتماعية، يوفرون له الأوهام الضرورية ليبدو هادفا إلى الخير العام، ضروريا ومرغوبا فيه. ورغم مسوغ الاعتراض فإن الناظم الأيديولوجي للمناخ الفكري والسياسي ليس سوى النهج الليبرالي الذي هيمن على العالم، باعتباره المشروع المجتمعي القابل للتجسيد في الواقع، بدون الأنساق الفكرية والاقتصادية والثقافية الأخرى التي لم تستطع أن تبلور ذاتها بديلا عنه، فظلت قابعة بوصفها حاشية نقدية لا غير لهذا المتن الليبرالي.
التحولات الاقتصادية والاجتماعية في ضوء السياسات الليبرالية، تحمي مصالح الأثرياء وتهدم الطبقة الوسطى، وتضر الكادحين
التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تجري في مختلف بلاد العالم في ضوء السياسات الليبرالية، والتي يتم في سياقاتها الحديث عن الديمقراطية والدفاع عنها، هي في الحقيقة تحمي مصالح الأثرياء وتهدم الطبقة الوسطى، وتضر بالعمال والكادحين، والأمر الأقرب إلى اليقين هو تعارض الديمقراطية ومنطق السوق، الذي سمح بالتخفيض المستمر في الأجور وزيادة ساعات العمل، ضمن المنافسة المنفلتة لليبرالية الجديدة التي استكانت لها أكثر الأنظمة السياسية التسلطية وعملت بتوجيهاتها، انطلاقا من إملاءات البنك الدولي ووصفات صندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات المانحة، التي تدخلت في شؤون الاقتصاد والسياسة والتعليم والثقافة، خاصة في الدول المغلوبة على أمرها، التي تحكمها نخب مهترئة تبنت مثل هذه المسارات كأيديولوجيا حزبية، وأصبحت ترددها ضمن أدبيات سياسية مفلسة، معتبرة أن لا حل غير الاندماج في السوق العالمي. وهي سياسة الأمر الواقع كما يبدو يريدون أن يجعلوا من هذا النظام الدولي الجديد الذي يشغل أغلبهم كبارونات حكومية بمثابة الحتمية التي لا مفر منها. ومثل هذا الانسجام مع مطالب العولمة غيب الديناميكية السياسية والاقتصادية، وحافظ على النظام السلطوي المعادي للديمقراطية وللعدالة الاجتماعية، تحرصه نخب سياسية اختارت القطيعة بين الثقافي والسياسي، بكيفية نفعية أبقت مثل هذه الهواجس الفكرية المسائلة للتحولات العالمية الجديدة، ضمن دوائر نخبوية ضيقة تغيب عنها الاستراتيجيات المتكاملة والمدعومة.
ومن البين أن الشرق الأوسط لا يفتقر الاستقرار فقط، بل هو بؤرة للعدوان والإرهاب السياسي، وهو الفضاء الأكثر تعقيدا، والمجال الأكثر اختراقا ضمن سياسات العلاقات الدولية، خاصة مع ازدياد تطرف السياسات الليبرالية، التي فرضت منطق النفوذ والتدجين بوساطة مؤسسات اقتصادية عابرة للقارات، لها قدرات مالية وتكنولوجية ضخمة، حولت أغلب الحكومات إلى مجالس زبائنية تؤمن الأموال والتسهيلات برفع الحواجز الجمركية والقضاء على القطاع العام شيئا فشيئا، والدفع باتجاه استقطاب الأموال بيد مجموعة قليلة، بما يشكل انعدام التوازن الاجتماعي، الذي يبرر حالات الاضطراب المتواصلة نتيجة مساوئ الاستبداد المتخفي خلف المنظور الليبرالي. والوضع ينذر باحتجاجات اجتماعية وانتفاضات شعبية، بفعل تراكم الظروف الموضوعية. وفي المحصلة تفضح مثل هذه المؤشرات ذلك النسق المحكوم بالرؤية المادية الاختزالية التي أفضت إلى تدمير المقومات الأخلاقية للفعل الإنساني، وانتهت إلى تفتيت أنساق القيم وإفراغ حياة الإنسان من المعنى. والليبرالية التي قُدمت كمذهب مخلص للبشرية لم تُحقق الرفاه، بل عمقت البؤس، وظلت مقاصدها وعناوينها الدعائية الكبرى «مثالية» أبعد عن الواقع المحكوم بجشع رأس المال الذي حول المجتمعات إلى فضاءات استهلاكية مادية لا يُحتكم فيها لأي قيم إنسانية.
كاتب تونسي