المسلسل الإيطالي «سوبورا»… استعادة لسينما المافيا

حجم الخط
1

نعرف أن السينما الأمريكية هي التي شكلت، أكثر من غيرها، في ذاكرتنا السينمائية، صورةَ المافيا، عوالمَ وعناصر وأحداثا. وتناسخت أفلام هذه السينما عن بعضها تلك العوالم، حتى الأزمنة وما يرافقها من أزياء وسلوك عام، كانت متماثلة في هذه الأفلام، فبنجاح فيلم يتبعه آخر وآخر. ترسخت مع السنين هذه الصورة، ليكون المافيوزي أو عنصر المافيا، غالباً، بملابس قاتمة، معطف طويل وبدلة وقبعة وصدرية وإشاط جلدي لحمل المسدس ونظارات سوداء، ويكون بسيغار، بنساء، بحياة باذخة، بسيارات ومرافقين، وغيرها من التمثيلات التي ترسخت بالتراكم لدى هذه السينما، وبالتالي صعبَ على غيرها الخروج عنها، وتصوير عناصر مافيا بأشكال جديدة مقابل جمهور «كبرَ» وتعودَ على صورة معينة لعناصر المافيا، الإبقاء عليها يضمنُ جمهوراً ثابتاً، وتغييرها يغامر بهم.
لست هنا أدين تلك الأعمال، فبعضها كان مساهمة عظيمة في تاريخ السينما، لكن الترسيخ والتناسخ والاستسهال، كضمان مسبق لرضى جماهيري، هو المُدان، هو ما يصعب على آخرين يرون أشكالا أخرى لعوالم المافيا، تصويرها. لست أدينها لأن أفلاماً عظيمة كانت من بينها، فهؤلاء الثلاثة: فرانسيس فورد كوبولا ومارتن سكورسيزي وسرجيو ليوني شكلوا معاً الصورة العامة المتداوَلة لعوالم المافيا في الولايات المتحدة، وهي عموماً مافيا إيطالية، أو إيرلندية . أفلام لهم مثل GoodFellas و The لسكورسيزي و Godfather trilogy لكوبولا و Once upon a Time in America لليوني، كانت الأساس أو المرجع للكثير من أفلام المافيا في العالم، وهي أفلام عظيمة لكن لا تعني محاكاتُها صناعةَ فيلم عظيم.
في السياق ذاته إنما لعوالم وتمثيلات وصور مافيا مختلفة تماماً، وبدون محاكاة لصوَر المافيا في السينما الأمريكية، أتى المسلسل الإيطالي «سوبورا» الذي عرضت نتفليكس أخيراً موسمه الثالث والأخير، وهو مأخوذ عن فيلم بالعنوان ذاته (2015) المأخوذ بدوره عن رواية بالعنوان ذاته كذلك (2013). من ذلك نستطيع توقع حبكةً عالية المستوى أخذاً بعين الاعتبار أن الرواية تحولت إلى فيلم بعد سنتين من إصدارها، وهذا الأخير تحول إلى مسلسل بعدها بسنتين من خروجه، وتحديداً، وهذا مبرر آخر للتوقع ذاته، لحضور المسلسل في مهرجان فينيسيا السينمائي عام 2017 حيث عُرضت حلقتان من موسمه الأول. هذه إشارات بسيطة قد تساعد في منح هذا المسلسل، أو حلقاته الأولى، مشاهدة تجريبية متفائلة.
المسلسل إيطالي ويحكي عن مافيات إيطالية. لسنا إذن، من الأساس، في أجواء التصورات الأمريكية للمافيات الإيطالية في الولايات المتحدة، كعصابات من مهاجرين يصنعون «إيطاليا» مصغرة في أحيائهم. ينقلنا هذا إلى الواقع الإيطالي المحلي للشخصيات، في السيناريو والتصوير. المسلسل بمواسمه الثلاثة، يحكي عن رجل المافيا ساموراي، في العاصمة روما، وعلاقاته بالمافيا في صقلية، وعن تحكمه بالعاصمة من خلال «البزنس» والابتزاز والجرائم، وكيلاً للمافيا الأكبر في الجنوب. من ناحية، هناك السياسي الانتهازي وهو الأشد دناءة، بطبيعة الحال، من غيره. هنالك كذلك مدققة الحسابات في الفاتيكان وقساوسة متنفذون فيه، هنالك ابن رجل الشرطة، وهنالك الطرفان الأهم في المسلسل بمواسمه: شابان ينتزع كل منهما زعامة المافيا العائلية التي ينتمي إليها، أورليانو في واحدة من ضواحي روما، وسبادينو في أخرى. كلاهما عصامي، كلاهما توسل الذكاءَ إلى جانب العنف، كلاهما تحدى ساموراي المتحكم بكبار السياسيين ورجال الدين في روما، وكلاهما، وهذا ما يميز المسلسل عن السينما الأمريكية ذات النهايات المتوقعة، بطل تراجيدي بالمعنى اليوناني القديم لحكاية المسلسل.


ليس رجال المافيا هنا أشباح محاطة بمسلحين، ليسوا بأزياء موحدة سوداء ومهيبة، ليسوا ڤيتو كورليوني في «العراب» الذي «يعطي للآخرين عروضاً لا يمكنكم رفضها». وليست الحكاية محصورة بصراعات المافيات العائلية الغريبة أو المهاجرة، فإضافة إلى العائلات والفاتيكان ورجال السياسة والأعمال ونسائها في روما، يقدم المسلسل طرفاً أساسياً في الصراع، تُميزه فردانيته، هو بطلاه أورليانو وسبادينو، كطرفين مستقلين منفصلين عن عائلتيهما متصلين بهما، فليسا، ومعهما آخرون، عائلة مافيا، بل إنهما تحالف حديث لتقاطع المصالح من جهة وللتقارب الشخصي من جهة أخرى. تخطى كل منهما عائلته ليكونا جسماً وسيطاً من حيث البنية، يكون بين المافيا العائلية والمافيا السياسية، الأولى المبنية على الأشخاص والثانية المبنية على المصالح.
للمسلسل، واسمه بالإنكليزي «سوبورا: دمٌ في روما» Suburra: Blood on Rome، قيمة إضافية في استعادة الصورة الواقعية لعوالم المافيا من السينما الأمريكية. قدم المسلسل الحكايةَ وعوالمها بشكل حيوي تتقاطع فيه الشخصيات بمصالحها وحياتها الخاصة، ببعضها، تتشابك العلاقات والمصالح والعداوات والتحالفات، تخرج شخصيات، مقتولةً، لتدخل أخرى، في حركة دائمة ومتشابكة، وتتالٍ للأحداث لا ينقطع.
أفلام عظيمة شكلت في ذاكرة المُشاهد صورةَ المافيا الإيطالية، وترسخت فيها. التنويع والتحديث الجدير بتلك الكلاسيكيات لا ينقل صورة عوالم المافيا كما ترسخت في ذاكرتنا السينمائية، المتشككة، عموماً، من أي صور مغايرة. و«سوبورا» مثال جيد لهذا التحدي بين المترسخ والمُحدث.

٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول بلي محمد من المملكة المغربية:

    فقط سطرا واحد ا اوربما بعض السطور ادا سمح لنا المنبر فالمساحة محدودة وكاعاشق لسينما لاناقد ولاكاتب متميز سينمائي فالكاتب المحترم السينمائي نرى مواضعه الفنية على ظهر المنبر المحترم فالسينما عالم لاحدود وهي على اربعة وجوه لاخامس لها منها هد ا الوجه الدي كسب شهرة واسعة واصبح في عيون الصغار والكبار وبالاخص من كان في اكثر من حلقة بين قوسين السينما الايطالية من الباب الواسع دخلت بهم المجتمع الايطالي بين قوسين كدالك تغيب السينما الكلاسيكية عن الساحة بشكل ملحوظ اذا ما تمت مقارنتها بنظيرتها الحديثة وذلك يحمل في طياته عدة اسباب، السبب الأول يكمن بغياب التجربة البصرية عن السينما الكلاسيكية فهي التي اعتنت بالعناصر الرئيسية مثل النص والإخراج على عكس الحديثة التي ابهرت ولا زالت تبهر بصرياً وموسيقياً.

إشترك في قائمتنا البريدية