المسلسل البريطاني«مارتشيلا»… بيانٌ ضد الذكورية

حجم الخط
0

■ لكثرة الأفلام والمسلسلات التي تتناول عمليات تحقيق في جرائم متسلسلة، مدخلةً في ذلك الجانب الحركي، كالملاحقات والمداهمات، والجانب السيكولوجي كتحليل بواعث العمل الإجرامي، واستقراء المقبل منها، والجانب التشويقي الدامج بين الجانبين السابقين والممتد على طول الحكاية، معتمداً على الصوت والصــــورة، كما هو على الحوارات والسيناريو، لكثرة هذه الأفــــــلام والمسلسلات، وتشـــاركها في الجوانب الثلاثة، بنسب متفاوتة، تتفاوت في التناول وتتفاوت في الجودة كذلك، لا بد أن يتساءل أحدنا عن الجدوى من عمل جديد يمكن بسهولة أن يكون تناسخاً آخر بين هذه الأعمال وبعضها بعضا، لا بد أن يتساءل إن كانت هنالك رغبة مستمرة في مشاهدة مسلسل مثل آخر نال إعجابه.
لنبدأ من فكرة أن «نيل الإعجاب» هذه، وتحديداً من مثلٍ آخر، آتي منه إلى حديثنا هنا، إنْ تناول أحدنا بيتزا في مطعم ونالت إعجابه، سيعود لاحقاً إلى المطعم ذاته ليتناولها، هي أو غيرها تكون بـ «توبنغز» أخرى. هذا التناول (المشاهدة) المتكرر يرافقه توقع مسبق من البيتزا (المسلسل) الجديد، هو مسبق لتجربة سابقة نالت الإعجاب، فلا نأتيها بتوجس المكتشِف، هو توقع ينطلق من الإعجاب الذي أتى بنا إلى هذا المطعم (مواضيع التحقيقات والجرائم).


هذا تماماً ما يجعل أحدنا، وقد شاهد مسلسلاً بموضوع ما، يبحث عن مماثل له، لضمانٍ أولي، يمكن أن يحصل عليه يؤمنه ذلك التماثل، وهذا تماماً ما يجعل «نتفلكس» تقدم لمشاهدها، أينما كان يتجول في المنصة، اقتراحات تماثل أفلاماً ومسلسلات سبق وشاهدها. وكلما كثرت المشاهدات للمواضيع المتماثلة، كثرت الاقتراحات.
ما الذي جعلني أبدأ بمشاهدة مسلسل «مارتشيلا»؟ أمور قليلة بدأتْ باقتراح صديقة أثق برأيها، ومرّت بقراءات سريعة وانتهت بمشاهدة الحلقة الأولى وقراري على أثرها، إكماله. وهو مسلسل في ثلاثة مواسم، إذ لن يكون القرار بتمضية كل ذلك الوقت بمشاهدة عملٍ واحد، سهلاً. أستطيع مثلاً خلاله مشاهدة وقراءة عدة أفلام وكتب.
وكان القرار صائباً، فالمسلسل استخدم جيداً عناصر التشويق المتناسخة هنا وهناك في مسلسلات كهذه، ولا بأس في تناسخها، ما دامت تُقدم جيداً (كالبيتزا الجيدة، اللذيذة في كل مرة) لكن كانت للمسلسل ميزاته الخاصة، إذ لم يُبنَ فقط على وصفات جاهزة ضامنة لحد أدنى من المشاهدات. المسلسل «ماترياركي» بامتياز، أي أن المواقع المؤثرة والأساسية في سير أحداثه هي لنساء، بدءاً من أن بطلته امرأة، ويحمل المسلسلُ اسمها، مارتشيلا.
المواقع المؤثرة المذكورة تتوزع على مواسم المسلسل الثلاثة، فالموسم الأول (2016) مديرة شركة، امرأة، هي القوة الأكبر مقابل مارتشيلا، التي تشاركها في عمليات التحقيق امرأة أخرى ورجل. في الموسم الثاني (2018) تقود عمليات التحقيق أخيراً إلى امرأة، في الموسم الثالث (2020) زعيمة مافيا عائلية تعيش ضمنها مارتشيلا كشرطي متخف، امرأة. وبخلاف المحقق المسؤول عن مارتشيلا في الموسمين الأول والثاني، كشخصية جيدة، يكون للرجال في المسلسل مواقع سلبية وشريرة، من زوجها/طليقها إلى مديرها/عشيقها الأنانيين، إلى ابن المديرة كفاشل لا يستطيع أن يملأ موقع اخته في الشركة، إلى المجرمين المتسلسلين والمتناوبين، إلى البيدوفيليين المتحرشين والمغتصبين، إلى الأخوين في عائلة المافيا الظالمَين للأم والأخت. جميعهم رجال وأشرار بشكل أتى مقنعاً درامياً (بدون تنظيرات مُقحَمة) أتى في سياق تدريجي يصف الأخيار والأشرار جنباً إلى جنب، بدون تحيز «غير درامي» في أن يكون هؤلاء بغالبيتهم رجالا، تقضي عليهم امرأة.
عنصر آخر لا بد من المرور به، وإن لم يكن عاملاً للحكم على المسلسل درامياً، لكن لا يمكن فصله عن المواقع النسائية فيه، وهو إفراد حيز واقعي وعادل لمن هم ليسوا «ذكوراً بيضا مغايري الجنس». فهنالك أدوار فاعلة أو حضور عابر لبريطانيين غير بيض، ومثليي الجنس، يُضاف إلى المواقع الأساسية للنساء.
الميزة الأخيرة لهذا المسلسل (Marcella) وتتعلق بالسيناريو (نال جائزة لدى «جوائز كتّاب السيناريو البريطانيين» عام 2018، وأفضل ممثلة في «جوائز إيمي العالمية» في 2017) هي أنه لم يحصر الحكاية في عملية تحقيق واحدة ومجرم واحد، كما هو حال معظم الأفلام والمسلسلات المماثلة، بل كانت في كل موسم عمليات تحقيق متوازية، بمجرمين مختلفين، قد لا يعرف أحدهم بالآخر، إنما عناصر متتابعة ومتشابكة يمكن أن تصل بين هذا وذاك خلال عمليات التحقيق، وهم مجرمون تزامنت ارتكاباتهم وتشعبت في بعض جوانبها. بشكل ذكي تتطور عمليات التحقيق لتحتويهم، رابطة بين أفعالهم السابقة والمستجدة، لتبدو التحقيقات أخيراً كعملية واحدة بطبقات وأطراف تعود كلها، أخيراً، إلى المحققة مارتشيلا.

٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية