القاهرة – «القدس العربي»: تحظى الدراما الصعيدية، التي تتناول الواقع الجنوبي المصري بإعجاب قطاع كبير من جمهور التلفزيون والفضائيات. لهذا يأتي التركيز عليها في الموسم الرمضاني بوصفها عنصرا مُجربا ومضمون الفاعلية والأثر، حيث نسبة المشاهدة المرتفعة تُغري بتكرار التجارب، فتتعدد الأشكال والألوان والمضامين التي تجري المراهنة عليها في الماراثون الكبير وعلى مدار السنة.
ويتبارى الكُتاب والمخرجون في طرح القضايا الأكثر سخونة في صعيد مصر من منظورات مختلفة، ولكن يظل الملمح الخاص بالبنية الأساسية لكل عمل فني متشابها إلى حد كبير مع أعمال سابقة، وهو ما يشكل أزمة حقيقية أمام النوع الدرامي ذاته، فيجعله محدود الأطر والأفق، مهما تنوعت الرؤى واختلفت الآراء.
وتتمثل الأزمة في عدم الخروج من القوالب التقليدية التي تعتمد في تشكلها على المنقول والموروث من تجارب سابقة، لم ينشغل أصحابها بغير العرض الاجتماعي العام في سلوك بعض المواطنين العصبيين، من محدودي الثقافة والمهتمين بالثأر كقضية أساسية، يعتقدون صلتها الوثيقة بالقوة والرجولة والبقاء، كمفاهيم راسخة ومستقرة منذ نشأت المجتمعات المتصارعة.
الجديد في مسلسل «ولد الغلابة» الذي تدور أحداثه وصراعاته بين ثلاث شخصيات رئيسية، هي عيسى، الذي يجسد دوره أحمد السقا، وعزت الذي يلعب دوره هادي الجيار، وضاحي الذي يتقمصه محمد ممدوح، يأتي الجديد والمختلف من تباين الثقافات والأفكار بين الأبطال الثلاثة، والتحولات التي تمر بها كل شخصية فتُحدث فيها تصدعات وشروخا تُفضي إلى مسارات اجتماعية وإنسانية تغير كثيراً من سمات الفرد، وتدفع به إلى عوالم مجهولة، كعيسى مدرس التاريخ المثالي، الذي يتحلى بالقيم والأخلاق، ويتمتع بخصال تسمو به فوق شبهات الفساد والانحراف، بيد أنه يتورط بفعل الضغوط الاقتصادية في الاقتراض من ضاحي، تاجر المخدرات وصاحب العقلية الإجرامية، وهو ذاته المحترف في اصطياد الضحايا من الجنسين لتوريطهم وإذلالهم، للتنفيس عن عقدة قديمة يتم الإشارة إليها في السياق الدرامي، بدون إفصاح صريح للتدليل على دوافع الشر لدى الشخصية العدوانية، أما عزت فهو الرجل الثري الملقب بالدكتور، والعاجز عن التواصل مع زوجته عاطفياً وإنسانياً، وهي عقدة أخرى يشير إليها السيناريو، وتشي بها الأحداث الأولية كنوع من تبرير الحالة العدمية للرجل القوي الغامض، الذي يخبئ عجزة في الاعتداء على زوجته التي تُجاهر بكرهها له، فيزداد انكساره أمامها ويتمادى في عدوانيته. ولأن الجانب الآخر من شخصية عزت لا يزال غامضاً والأسباب التي أدت به إلى هذا الهوان غير معلومة بالشكل الكافي، فإن التكهنات والقراءة المبدئية للشخصية تتجه إلى الشك في أن يكون هو ذاته زعيم العصابة، الذي يحرك ضاحي وينصب الفخ لعيسى كي يوقع به في براثن الجريمة والرذيلة، للاستفادة منه كعنصر نشيط وعقلية مستنيرة، وبغض النظر عن تفاصيل الحدوتة وخيوطها الدرامية، تبقى نقاط الإضاءة الأساسية متضمنة في المغايرة النسبية لشكل المعالجة، وإن لم تخل تماماً من مكونات التآمر والتدبير، والقتل كعناصر حتمية في تكوين الخلطة الصعيدية المعهودة، لكنها تبدو منطقية ومبررة، كونها تأتي تدريجية وفي سياق التصعيد الطبيعي للأحداث.
يضاف إلى ذلك اتساع الرقعة الدرامية وخلق مستويات بينيه خاصة بكل شخصية، تسمح بالمزيد من الثراء النوعي، وتتيح للممثل فرصة التعبير عن المخزون الداخلي، الذي قد لا يكون مكتوباً بالنص في السيناريو، بالإضافة إلى المساحات المتوافرة للعناصر النسائية التي تُسند أدوارها إلى إنجي المقدم ومي عمر ورشا أمين وعفاف رشاد وسلوى عثمان وصفاء الطوخي وهبه مجدي وطاهرة وريم سامي، بما يعني التأثير الفعلي في الحدث بعيداً عن المغازلة الشكلية بالأسماء لضمان التسويق إتباعاً للحيلة القديمة، ولا شك في أن جزءًا من تميز مسلسل «ولد الغلابة» يرجع إلى حالة التنافس القوية بين أقطاب العمل الثلاثة، السقا والجيار ومحمد ممدوح وهي واحدة من المكتسبات التي نجح في تحقيقها كل من السيناريست أيمن سلامة والمخرج محمد سامي، وساعد على تفعيلها الربط الجماهيري بأثر رجعي بين دور أحمد السقا في فيلم «الجزيرة» ودوره الراهن الذي وضعة في تحد آخر بينه وبين نفسه.