مصر هبة النيل هذه حقيقة تاريخية ووجودية ارتبطت بجغرافيا المسار النهري وبالتالي مسار الانسان المصري، ووفقا لذلك اكتشف المصري عبقرية المكان فارتبط بالارض ونيلها، بل وكان يجعل للنيل مقاما يرتقي للقداسة ويمهره بعروس في كل موسم ..ولكن في مراحل تاريخية لاحقة حيث المتغيرات الاقليمية والدولية متسارعة ومعقدة وتحاك فيها مؤامرات وتبرز فيها تطلعات شعوب وانظمة كانت في مرحلة سابقة منكفئة على هموم واوجاع عصبوية ومحاولة خلق استقرار سياسي، ظهرت قيادات في حوض النيل التفتت بذكاء الى الممر النهري وارادت توظيفه لنهضتها واستثماره اقتصاديا ..والاصل ان المصري افريقي في جذوره كما هو فرعوني، ولا تناقض بين دوائر الانتماء لديه فهو افريقي عربي مسلم يهتم ايضا بدوائر انتمائه في العالم الثالث خصوصا والعالم بشكل عام، ولكن افريقيته ذات اولوية في الانتماء لا يجوز اهمالها او الغفلة عنها، لان فيها سر وجود المصريين (ارضا وانسانا) فكيف للنظام السياسي اهمال هذا الامر، وبالتالي تقليل الفاعلية والاهتمام السياسي والدبلوماسي، بل والاستخباراتي ناهيك عن الحضور الثقافي والاقتصادي. المفروض ان يكون للمصريين حضور دائم في كل دول حوض النيل، ووفقا لمستويات متعددة ومتنوعة رسميا وشعبيا، ليس من باب التكتيك السياسي، بل من باب المصالح الاستراتيجية بعيدة الامد. مصر لا يجوز ان تنكفئ داخليا مهما كانت المشكلات والمعضلات التي يواجهها اي نظام، لان الخارج الاقليمي والدولي هو واحد من اهم مفاتيح التغيير في الداخل، بشرط الادراك والوعي الكاملين باهمية الاستثمار للعلاقات مع الخارج، وفق تبادل المصالح وليس من بينها تسليم القرار لدولة، بحجة ان بيدها مفاتيح الشرق الاوسط كله.. في هذا السياق يمكن القول ان من يصل الى حكم مصر لابد ان يستوعب اولا جغرافية البلد وابعادها سياسيا، على المستويين الداخلي والخارجي .. ولان النيل يعم خيره على جميع المصريين وارضهم منبسطة تشكل مزاج المصري في اطار من جدلية العلاقة بين الانسان والارض والنهر، وهنا تشكلت شخصية مدنية تؤمن بالتعدد والتنوع والتسامح، ولا مجال معها لفرض رأي او عقيدة او ايديولوجيا. ومن هنا ايضا تكمن ازمة الاخوان (الجماعة الحاكمة) فهم غير مستوعبين لتاريخ مصر ولا مساره الثقافي والحضاري.. فلا يمكن نفي المسار الثقافي والمدني خلال المئتي عام الاخيرة – على الاقل – من تاريخ مصر الحديث، وفرض رؤى ومنظورات خاصة بجماعة منغلقة عن افق التطور الانساني، ووفق رؤى ومنظورات مخاصمة للواقع ومسحوبة تاريخيا من مراحل سابقة .. وبالمقابل فان قوى اليسار والليبراليين والقوميين وغيرهم، رغم استيعابهم لتاريخ مصر لكنهم محصورون في بطولات ذات اطار وهمي لقيادات لا يعرفها المجتمع المصري، فهي بعيدة عن الواقع المجتمعي، كما انها ايضا غائبة عن منبع النيل ودوله ومجتمعه، التي فيها مجرى النيل في جغرافية متعددة ومتنوعة الثقافات والنظم.. والسمة الاساسية ان المصريين لا يدركون مخاطر تتهددهم الا لحظات الشدة، وهي لحظات فارقة ومفصلية تمكن الاخرين من التهديد المباشر لمصر.. وهذا الامر تقابله مفارقة مثيرة للاهتمام مفادها فاعلية المصري وحيويته وقدراته في العمل الانتاجي والحياتي، الا ان اسلوب الادارة السياسية اقل من ابداع المواطن العادي، ورغم لحظات زمنية خاطفة تعكس حضور قيادات متوافقة مع ادراكها للجغرافيا النهرية ومجالات الانتماء لمصر، فان انظمة اخرى تأتي بطريقة دراماتيكية تريد ان تطبق اوهامها في نظام سياسي معاد للمجتمع ومتجاوز لحضور المكان والنهر في وعي الفرد والنظام في آن واحد. وما تعيشه مصر حاليا من تكالب الازمات وتداخلها، من دون اي بوادر حل يخرج مصر من نفق مظلم، تتجه كل القوى السياسية في صراعها لاعتماد اللعبة الصفرية، حيث الكاسب يريد ان يأخذ كل شيء، وان الخصم يخسر كل شيء وهذا امر غير مقبول في العمليات السياسية التي يمتلك فيها كل اللاعبين قواعد اجتماعية على الارض. ومن هنا جاء الاستقطاب الراهن بين قوى اسلاموية واخرى مدنية، وما ترتب عليه من انقسام حاد في المجتمع، افقيا وعموديا، وما نجم عنه من اعادة انتاج للهويات العصبوية التي تنتمي لمرحلة ما قبل الدولة، واعادة ربط الافراد بانتماءات اجتماعية ودينية تجزيئية تستهدف خلخلة الوحدة السياسية والاندماجية للدولة والمجتمع، بدلا من ترسيخ الهوية المدنية للافراد وللدولة وللمجتمع بانحياز نحو المستقبل .. ولا يفوتنا هنا التعبير عن ظهور نزعات التملك السياسي للسلطة وللدولة من جميع الفرقاء، وجعل الصراع منذ بداياته منصبا في منطق المحاصصة والغنيمة، وهنا تغيب مصر وتظهر جماعات تستهدف استملاك الدولة واخضاع المجتمع لتصوراتها. ان أمن مصر القومي يرتبط اولا بمجرى نهر النيل واستدامة جريانه، من دون تهديد من دول المنبع، وامنها اولا ايضا يرتبط بحضور دولة قوية فاعلة في الداخل والخارج، تدرك وفق منظور استراتيجي ابعاد الوجود السياسي والمجتمعي للشعب والدولة في اطار الجغرافــــيا السياسية، وفي اطار الانفتاح لتعدد المصالح المشتركة مع مختلف دوائر الانتماء التي ترتبط بها، وامنها اولا ايضا لا يتحقق الا بحضور السياسي والمجتمعي المصري في اطار دولة مدنية، دونها تبقى مصر متغربة عن بيئتها ووسطها الاقليمي والعالمي، بل ومتغربه عن مسارها التاريخي.