هل وقعنا في مصيدة؟
هذا هو سؤال بيروت.
ماذا يستطيع أن يقول من يشعر بأنه وقع في شرك مقفل، لا مخرج له.
إننا نشعر بالسأم، ونموت وسط السأم، نقول فنكتشف أننا نكرر ما سبق أن قلناه، وإذا صمتنا نشعر بأننا نكرر صمتاً سبق أن صمتناه.
لا فائدة من الكلام، ولا رجاء من الصمت.
بعد انفجار 4 آب- أغسطس، صرخنا وبكينا وشتمنا وصمتنا. وكانت المفاجأة الكبرى هي أننا فوجئنا بما جرى.
أنا لا أتكلم هنا عن الانفجار الذي كان أشبه بلحظة قيامية لم يتوقعها أحد، بل أتكلم عن ردود فعل النظام الاستبدادي الطوائفي اللبناني على الانفجار.
لم يشعر أي مسؤول لبناني بأنه مسؤول، ولم يبال أحد بالضحايا، وكانت مفاجأتنا بمواقفهم ساذجة. حتى غضبنا من هذه العصابة الحاكمة لم يكن سوى تأكيد لسذاجتنا.
لا أريد تكرار المكرر في وصفهم، أو في تحليل ممارساتهم، أو في قراءة ردود أفعالهم، فهذا لم يعد مفيداً.
يبدو أن الانحطاط له اسم واحد هو تكرار المكرر. فقوة النظام الطوائفي الاستبدادي اللبناني تكمن في قدرته على التكرار. اللعبة نفسها لم تتغير قواعدها منذ تأسيس دولة لبنان الكبير عام 1920.
لكن الإضافة الجديدة التي صنعها نظام فيدرالية الطوائف في لبنان، هي أنه أنزل السياسة إلى مستوى صراعات العصابات والمافيات.
لا نستطيع بالطبع عزل الانحطاط اللبناني عن سياق الانحطاط العربي الذي يحيط بنا. حقول القتل التي تمتد من سوريا إلى اليمن إلى ليبيا، تجري في فراغ عربي شامل، كأن لا وجود للعرب إلا بصفتهم كتلة هلامية يتحكم بها الذعر وتستسلم للمستبدين الذين استسلموا بدورهم للقوى الإقليمية والدولية التي تتلاعب بهم.
وحين يأتيك من يعتقد أنه يفتتح مرحلة جديدة، كما فعل الأتباع التطبيعيون في الخليج، تتيقن من أن المصير العربي برمته بات في مهب دولة الاحتلال الإسرائيلي التي تهيمن على الحاضر وتسعى إلى تزوير التاريخ، تمهيداً لاحتلال المستقبل.
وسط هذه المناخات، نجحت المافيا اللبنانية في نقل الحياة إلى ميدان جديد أطلق عليه علماء الاجتماع اسم البيو- سياسة Biopolitics .
البيو ـ سياسة هي أداة لتحليل كيفية قيام السلطة بالهيمنة على حياة الناس وأجسادهم وضبطها من أجل تنظيمها من جهة، وتأمين السيطرة عليها من جهة ثانية. وقد عرفت البيو-سياسة ذروة فاعليتها في الزمن الكولونيالي، حيث قام المستعمرون باستعباد سكان البلاد الخاضعة، والسيطرة على حيواتهم وأجسادهم واستخدام الأمراض والأوبئة كأسلحة للفتك والإبادة.
لقد عرفنا في المشرق العربي هذا النوع من الممارسات على يد دولة الاحتلال التي قامت على التطهير العرقي للفلسطينيين خلال حرب النكبة سنة 1948. كما عرفنا أشكالاً متعددة من ممارسة السياسة على الجسد في أنظمة الاستبداد العربية. ولعل النموذج الوحشي الذي قدمته السجون الأسدية يشكل سابقة خاصة موازية لاستخدام الأسلحة الكيماوية أو حرب الجوع والإفقار.
لقد أثبتت الطغمة الحاكمة اللبنانية أن قوة نظامها تستند إلى عنصرين:
العنصر الأول: ضعف المجتمع، أي عدم قدرة المجتمع اللبناني على الانتظام في أطر اجتماعية وسياسية خارج منظومة الطوائف. وعندما نجح المجتمع في تشكيل بعض هذه الأطر قامت السلطة بتدميرها. وليس قيام السلطة في زمن الهيمنة السورية بتدمير النقابات العمالية والاستيلاء على الحركة الطلابية سوى تعبير عن إصرارها على قتل أي احتمال لبروز بديل من خارجها.
العنصر الثاني: امتلاكها قوة ميليشيوية تساند و/أو تحل مكان آلة القمع التابعة للدولة.
ومنذ انطلاق انتفاضة 17 تشرين، لجأت السلطة المذعورة من قدرة الانتفاضة على تجاوز الانقسامات الطائفية والمناطقية، إلى سلاح التلويح بالميليشيات الرديفة (حركة أمل وحزب الله) وإن بشكل محدود، من أجل وضع الانتفاضة أمام التهديد بالحرب الأهلية الطائفية، وهو الاحتمال الذي قامت الانتفاضة الشعبية كنقيض له.
ولكن الانهيار الاقتصادي والمالي المريع، والذي لا قعر له، أنتح فوضى سياسية لا تملك الطغمة الحاكمة المعرفة والخيال لتنظيمها. فوجد اللبنانيات واللبنانيون أنفسهم أمام بيو- سياسة عشوائية خاصة بهم، أي أمام واقع سياسي يعتدي على أجسادهم، ويقوم بتجويعهم، ويهددهم كل يوم بمزيد من الفاقة والجوع.
البيو- سياسة في لبنان تستند إلى إرث مجاعة الحرب العالمية الأولى، التي قادت اللبنانيين إلى الهجرة إلى مختلف بقاع الأرض، بحثاً عن لقمة خبز.
إلى هنا أوصلت الطغمة الحاكمة لبنان، ومن المؤكد أن الوصول إلى هذا الدرك ليس نتاج مخطط مدروس، بل هو نتاج سياسات مالية واقتصادية هوجاء قائمة على نهب موارد الدولة، وسرقة ودائع الناس في المصارف، والإصرار على متابعة سياسات الاستقواء بالخارج، والاتكال على افتراض غيبي وغبي مفاده أن العالم، أي الغرب، لن يسمح بانهيار لبنان.
لا أدري إذا كانت الطغمة اللبنانية الحاكمة مقتنعة بأن الاعتداء على أجساد الناس وتجويعهم وترويعهم قادرة على ضبط المجتمع وتقنين غضبه في القنوات الطائفية التي تحسن هذه المافيا الإبحار فيها.
ولا أفهم كي تتابع القوى السياسية لعبة المماحكة والكيديات والتذاكي وعدم رؤية الواقع المأساوي، ما قادها إلى الإطاحة أو تجميد الورقة الفرنسية التي يدّعي الجميع التمسك بها!
جوهر الورقة الفرنسية كان محاولة إنقاذ نظام سياسي واقتصادي وطائفي يتداعى. أمراء الطوائف ولصوصها غير مؤهلين للسماح بأي إصلاح حتى ولو كان مجرد عملية تجميل تفترض إزاحة آلية النهب عن الإمساك بالسلطة ولو بشكل مؤقت. فجدار الفساد المستشري لا يحتمل سقوط أي حجر من بنيانه، خوفاً من انهياره وتحوله إلى ركام.
أما البيو-سياسة التي رسا عليها النظام في مرحلة أفوله، فلن تقود إلا إلى سقوطه بشكل مدوٍ، وهو سقوط سوف يحمل معه الكثير من المآسي، ويقودنا إلى الخراب، وسط فراغ أخلاقي وسياسي.
لن يأتي الحل على شكل ترميم مستعجل يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، على الطريقة التي اقترحها سعد الحريري. فهذا الترميم يواجه تعقيدات المناكفات الطائفية المستندة إلى انسداد إقليمي، تغذيه قوتان لا تأبهان لمصير اللبنانيين، هما الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية في إيران. ولكن لنفترض أن تسوية ما ممكنة عبر التحايل والتذاكي، فإنها لن تكون -هذا إذا كانت- سوى محاولة مؤقتة لتأجيل انهيار نظام سياسي واقتصادي، صار موته حتمياً.
يجب أن يتحد جميع فقراء لبنان ضد الطائفية التي أتت بالفساد!
يجب أن تكون البداية بمحاصرة القضاء الفاسد بالمظاهرات السلمية حتى يتغير الوضع قانونياً!! ولا حول ولا قوة الا بالله
أتذكر رسما كاريكاتوريا للمبدع الشهيد ناجي العلي يسأل طائفي رجلا يجلس على برميل: انت مسلم ام مسيحي، شيعي ام سني، ماروني ام كاثوليكي، درزي أم اسماعيلي,, فيرد عليه الرجل أنا عربي يا جحش. وفهمكم كافي
شكرا استاذ الياس
النّظامُ ماتْ / و مَن ماتَ ماتْ / إلاّ عصابة هذا النّظامِ / أخطبوط لا تموتُ / لها مئات الأصابعِ / بكلّ إصبعْ / ألف منبعْ / للحياة ! / و يعيش الشّعب حيّا / و لكن / مسلوبَ الحياة !
شكرًا أخي الياس خوري. لاأعرف تمامًا لكن يبدو لي أن سقوط هذا النظام المافيوي يبدأ بسقوط الإبتزاز السياسي الذي يمارسه حزب الله على لبنان، فتحولت الدولة إلى مايشبه المافيا. لكن للأسف هذا الأمر مرتبط بسقوط التسلط الإيراني-السوري على لبنان ومن جهة أخرى نهاية الدور السعودي وانتهاء دور حليفهم الحريري في نفس الوقت أيضًا. كل التمنيات للشعب اللبناني بمتابعة ثورتهم، فلا يبدو أن هناك حل آخر في الوقت الخاصر، ويبقى الأمل.
/نجحت المافيا اللبنانية في نقل الحياة إلى ميدان جديد أطلق عليه علماء الاجتماع اسم الـ”بيو-سياسة” Biopolitics … كأداة لتحليل كيفية قيام السلطة بالهيمنة على حياة الناس وأجسادهم وضبطها من أجل تنظيمها من جهة، وتأمين السيطرة عليها من جهة ثانية. وقد عرفت الـ”بيو-سياسة” ذروة فاعليتها في الزمن الكولونيالي/..
صحيح أن اصطلاح الـ”بيو-سياسة” Biopolitics، كما يرد هنا وهناك هذه الأيام، إنما هو اصطلاح جديد في علم الاجتماع، أكثر من أي علم إنساني آخر.. غير أن مفهومه الأساسي، في هذه القرينة، يذكّر بتلك الطريقة التي كانت تتَّبع أيامَ الإمبراطورية الرومانية من أجل السيطرة الروحية والجسدية على العبيد ذواتهم لمنعهم من الإباق والتمرُّد، وعلى الأخص العبيد السود والسمر والبيض منهم الذين امتازوا بتلك الروح الإباقية والتمرُّدية دون سواهم.. تماما على النقيض من أولئك العبيد الخلاسيين الأنجاس الذين كانوا يداهنون للإمبراطور ولحاشيته أيما مداهنة، وإلى حد لعق أحذيتهم ونعالهم متى أُمروا بذلك، بغية الحفاظ على حيواتهم “مُصانةً” بشكل أفضل وأرقى من حيوات نظرائهم العبيد الآخرين..
/للكلام بقية/..
/بقية الكلام/..
وللمفارقة التي تدعو إلى التهكُّم والسخرية، ها هنا، فإننا نرى حتى في هذا الزمان العصيب، زمان الثوراث والانفاضات الشعبية في أرجاء متفرِّقةٍ من عالمنا العربي الجريح، فإننا نرى الكثيرَ من أمثال أولئك العبيد الخلاسيين الأنجاس الذين كانوا، وما زالوا، يداهنون لأزلام السلطة ويلعقون أحذيتهم ونعالهم من أجل الوصول إلى، ومن أجل الانتهاز من ثم بالمراكز “المقبولة” اجتماعيا