المضمون الخاوي للسياسات النيوليبرالية وتصاعد الاحتجاج الجماهيري

مع تفرّد الولايات المتحدة بقيادة العالم أواخر القرن العشرين، أصبحت الأيديولوجيا الليبرالية «نسقا ثقافيا ملزما» في الفضاء العربي وغير العربي، وبدت تسُود كلّ المجتمعات بشكل مُعولم، من دون اعتبار الخصوصيات الثقافية المختلفة.
واعتبر دعاة النيوليبرالية والمدافعين عن النسق النيوليبرالي، منذ ذلك الحين أنّ التدخل في السوق هو نفي لحرية الفعل الاقتصادي، وتحجيم له، ومساس بطبيعة العملية الاقتصادية ذاتها، وبالتالي يجب جعل العالم فضاء مفتوحا. وهو ما تمّ فعلا مع سياقات العولمة المادية والثقافية، التي حوّلت العالم إلى سوق مفتوحة شرّعت أبوابها أمام التوزيع المنحرف للثروة في البلدان، مع سيطرة رأسمالية التمويل على الاقتصاد العالمي. وقدّر فوكوياما وغيره أنّ على الجميع أن ينتظم وفق النمط الليبرالي الرأسمالي، واعتقد دعاة هذا المذهب أنّه رغم وجود تنويع كبير في المسارات التي يُمكن للمجتمعات أن تسلكها لبلوغ «نهاية التاريخ»، فإنّه لا وجود إلّا لعدد قليل للحداثة خارج الصيغة الديمقراطية الليبرالية للرأسمالية، فهذه الصيغة هي التي تكشف عن مظاهر النجاح الممكن. ومن منظور المزالق الفكرية اعتبر أحد كبار مؤسّسي التيار النيوليبرالي ميلتون فريدمان أنّ الذي يكمن خلف غالبية الحجج المقدّمة ضدّ اقتصاد السوق هو «نقص الإيمان بالحرية ذاتها» ومثل هذه الوثوقية التنظيرية تدعو للاستغراب، فهؤلاء يرغبون في أن يجعلوا الوضع المزعج يبدو منطقيا، وهذا النظام المتردّي الذي تعجز فيه الانسانية عن خلق عدالة اجتماعية وإنسانية يوفّرون له «الأوهام الضرورية» ليبدو النظام الرأسمالي الليبرالي هادفا إلى الخير العام، ضروريّا ومرغوبا فيه. ورغم مسوّغ الاعتراض فإنّ الناظم الأيديولوجي للمناخ الفكري والسياسي كان النهج الليبرالي الذي هيمن على أوروبا، باعتباره المشروع المجتمعي القابل للتجسيد في الواقع، دون الأنساق الفكرية والاقتصادية والثقافية الأخرى، التي لم تبلور ذاتها بديلا له فظلّت قابعة بوصفها «حاشية نقدية» على المتن الليبرالي.
المجتمعات في حالة اضطراب بالغ الشدّة نتيجة مساوئ الاستبداد المتخفّي خلف المنظور الليبرالي، والوضع يُنذر باضطرابات اجتماعية وانتفاضات شعبية واحتجاجات جماعات الرفض السياسي وغير السياسي. وجميع هذه المؤشّرات تفضح مثل هذا النسق المحكوم بالرؤية المادية الاختزالية، التي أفضت إلى تدمير المقوّمات الأخلاقية للفعل الانساني، وانتهت إلى تفتيت أنساق القيم وإفراغ حياة الإنسان من المعنى. والليبرالية التي قُدّمت كمذهب مخلّص للبشرية لم تُحقّق الرفاه، بل عمّقت بؤس الأكثرية في العالم، وظلّت مقاصدها وعناوينها الدعائيّة الكبرى «مثالية» أبعد عن الواقع المحكوم بجشع رأس المال، الذي حوّل المجتمعات إلى فضاءات استهلاكية مادّية، لا يُحتكم فيها لأيّ قيم إنسانية. وبالتّوازي أضعفت السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة أسس الديمقراطية الحقيقية، وأربكت الدولة التي لم تتغوّل كما نظّر توماس هوبس، بل سيطر عليها قانون السوق الحرّ والشركات النافذة عبر الحدود، وأصبح أصحاب المال والنفوذ المتحكّمين الرئيسيين في التدفّقات المالية والمضاربات الاحتكارية، والأمر بات مُوكلا بالشركات الضخمة التي تتحكّم في الاقتصاد العالمي بنسب كبيرة جدا، وهي تُمسك بالأذرع الاعلامية الكبرى، وتُطّوّع الفكر وتُدجّنه وتُهندس السياسات من خلال إمكانياتها الضخمة ونفوذها المالي العابر للقوميات. وإن كان الخطاب النيوليبرالي «خطاب قوي يصعب معارضته» لارتكازه على مجموعة هائلة من الآليات المؤسّساتية القوية على الصعيد العالمي، وهو المشحوذ سياسيا وأيديولوجيا من القوى الدولية الكبرى، دفعا لانتشاء الناس به وإبهارهم بنزعة لا بديل لها منذ بواكير تصديره دعائيّا من قبل المتحمّسين لنهاية التاريخ، وانتصار الليبرالية بشكل مطلق، يمكن مع ذلك إنقاذ العالم من هذا النموذج الليبرالي المتهافت تساوقا مع تساؤل السوسيولوجي بيير بورديو والكثير من الرؤى النقدية التي أبصرت مفارقات هذه الأيديولوجية ومكامن نقصها، على صعوبة إمكانية التخلّص من هذا النموذج المتوحّش، الذي أضعف الدولة الوطنية وألّه السّوق بتدفقاته المالية والتجارية، وسعّر الإنسان بالدولار وأفضى إلى تشييئه في سُلّم السّلع و»المادّة الاستعمالية» ضمن سياق النزعة الفردانية مطلقة المنفعة المادية في الفكر والذوق والسلوك. ويبقى التقدّم الحاسم نحو ولادة جديدة للبشرية محتملة في هذا القرن، دفعا نحو نظم الأمور وإعادة ترتيبها واختيار المسالك العادلة في أداء الفعل الخلقي الإنساني بما يوجبه الرأي والتمييز والتدرّب على الفضائل والارتياض بها.

*كاتب تونسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية