كنت أعد مقالي الأسبوعي تحت عنوان يتضمن مطالبتي باستقالة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، شارحا الأسباب التي سأذكر بعضها حول أسباب هذه الدعوة للاستقالة. وقبل أن أنتهي من كتابة مسودة مقالي، تابعت جلسة يوم الثلاثاء المفتوحة لمجلس الأمن لمناقشة الوضع «في الشرق الأوسط بما في ذلك القضية الفلسطينية» كما يسمى رسميا. وقد عقدت على مستوى وزاري، بدعوة من وزير خارجية البرازيل ماورو فييرا، الذي ترأس اجتماعا استمر يوما كاملا على مستوى وزراء الخارجية تحدث فيه 89 مندوبا، من بينهم وزراء خارجية ونواب وزراء ووزراء دولة ومندوبون دائمون.
في كلمته أمام المجلس قال غوتيريش، بعد أن أدان حماس وطالب بإطلاق سراح الأسرى قال جملة أخرجت الإسرائيليين عن أطوارهم: «إن هجمات حماس لم تأت من فراغ، حيث تعرض الشعب الفلسطيني لـ56 عاما من الاحتلال الخانق، يشاهد خلالها أرضه تأكلها المستوطنات، ويتعرض للعنف، يخنق اقتصاده. ويشرد مجتمعه؛ وتهدم منازله وتتلاشى آماله في التوصل إلى حل سياسي. ومع ذلك، فإن مظالم الشعب الفلسطيني لا يمكن أن تبرر الهجمات المروعة التي شنتها حماس. وهذه الهجمات المروعة لا يمكن أن تبرر العقاب الجماعي للشعب الفلسطيني».
إسرائيل تريد أن تفرض على الجميع رواية جديدة للصراع الذي يزيد عمره عن مئة سنة.. الرواية الجديدة تبدأ يوم 7 أكتوبر 2023 وتنتهي يوم 7 أكتوبر 2023
وبعد أن هاجمه وزير الخارجية الصهيوني إيلي كوهين، في الجلسة وسأله «في أي عالم تعيش؟ بالتأكيد ليس في عالمنا» خرج السفير جلعاد إردان وطالب باستقالة الأمين العام وقال على موقعه بأن الأمين العام أبدى تفهما للإرهاب، ثم ألغى وزير الخارجية الصهيوني موعده مع الأمين العام، فاستقبل غوتيريش بدلا منه مجموعة من أهالي المحتجزين في غزة يمثلون العديد من الدول. وخرج في اليوم التالي صباحا إلى الصحافة ليؤكد أنه أسيء فهمه وأنه لا يؤيد الإرهاب وطالب بإطلاق الرهائن أولا، وأدان ما قامت به حماس ثانيا، قبل أن يتحدث عن معاناة أهالي غزة.
بعد هذه المواجهة بين الكيان والأمين العام، تراجعت عن مطالبة الأمين العام بالاستقالة واعتبرت أن موقفه هذا يغفر له حتى لو جاء متأخرا. أما الأسباب التي كنت سأسردها في مطالبتي إياه بالاستقالة فتتلخص في النقاط التالية:
– تأخرت دعوة الأمين العام لوقف إطلاق النار، أو حتى هدنة إنسانية لمدة عشرة أيام لإدخال المساعدات الإنسانية؛
– في بياناته الأولى ركز الأمين العام على الإدانة القوية لحركة حماس، واعتبار ما قامت به عملية إرهابية، من دون أن يضع ما قامت به في الإطار الصحيح لمعاناة الشعب الفلسطيني على مر السنين، أي أنه قطع الحادث عن سياقه التاريخي؛
– في بياناته الأولى مرة وراء مرة دعا إلى إطلاق الرهائن، من دون قيد أو شرط، ومن دون أي إشارة إلى الآلاف من الفلسطينيين المتعقلين والأسرى ومن بينهم أكثر من 300 طفل. ولم يذكر الأمين العام في بياناته أي كلمة عما يجري في الضفة الغربية من قتل واقتحامات وإصابات بالمئات واعتقالات، من دون أن يكون هناك أي ولاية أو سيطرة لحركة حماس. فهل الضحايا من الفلسطينيين، خاصة الأطفال في الضفة الغربية لا يستحقون لفتة من الأمين العام ولو من نوع رفع العتب؟
– لم يستخدم كلمة «إدانة» في ما تقوم به إسرائيل من قصف جوي، ولم يستخدم اللغة نفسها التي استعملها في إدانة ما قامت به حماس، وهو يرى بأم عينيه أرقام الضحايا تتضاعف يوميا، خاصة بين الأطفال والنساء. وأول مرة استخدم كلمة إدانة عند تدمير المستشفى الأهلي، وفي البيان نفسه أدان قتل استهداف مدرسة تابعة للأونروا قتل فيها سبعة موظفين، أي أنه جمع الجريمتين في بيان واحد.
– موقفه على معبر رفح وخطابه العاطفي من الجانب المصري، أحسست أنه يريد أن يبرئ نفسه من انتقادات شديدة حول تأخره في الدعوة إلى وقف إطلاق النار وفتح المعابر بسرعة، وبطريقة مستدامة إلا أمام هذا الوقفة المسرحية.
تلك أسباب كانت، في رأيي، تثبت أنه لم يلتزم بموقفه الحيادي كأمين عام لا يحق له أن يميل إلى طرف أو يجزئ الحقيقة أو يتغافل عن حقائق واضحة. لهذا كنت أريد أن أطالبه بالاستقالة.
كلمة الأمين العام في جلسة مجلس الأمن رفيعة المستوى يوم الثلاثاء الماضي، رقّعت كثيرا من الثغرات والهفوات، التي ظهرت في بياناته وتصريحاته لمدة 16 يوما من حرب الإبادة التي يشنها الكيان ولا يزال على الشعب الأعزل والمحاصر في رقعة صغيرة من الأرض.
إسرائيل، وعلى الطريقة الأمريكية في 11 أيلول/سبتمبر 2001، تريد أن تفرض على الجميع رواية جديدة للصراع الذي يزيد عمره عن مئة سنة. الرواية الجديدة تبدأ يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وتنتهي يوم 7 أكتوبر 2023. لا تاريخ قبله ولا تاريخ بعده. هذا التاريخ الجديد هو البداية وهو النهاية، أي خروج عن النص سيواجه بالتهديد والعنف إن اقتضى الأمر أو التشهير أو الضغط أو إطلاق حملات التشويه وتوجيه التهم. ممنوع على الدول الأعضاء أو الأمين العام أو رؤساء المنظمات الدولية الحديث أو الإشارة، من قريب أو من بعيد، أو حتى ذكر أي شيء عن المعاناة التي عاشها الشعب الفلسطيني قبل هذا التاريخ. ممنوع ذكر النكبة أو اللجوء أو المجازر أو الاحتلال أو الاستيطان أو عنف المستوطنين أو اقتحامات الأقصى أو آلاف الأسرى ومئات المعتقلين، من دون تهمة أو محاكمة. ممنوع ذكر الجدار العازل وممنوع ذكر الحروب الست التي تعرض لها قطاع غزة منذ عام 2006. ممنوع ذكر اقتحامات البيوت، ولا هدم البيوت، ولا مصادرة الأراضي. ممنوع ذكر الحواجز والاغتيالات وقتل الأطفال بدم بارد. كل ذلك ممنوع. أما بعد هذا التاريخ، وبأوامر من الكيان الصهيوني ومظلته الواقية الولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية، فممنوع ذكر القصف السجادي على قطاع غزة، وممنوع ذكر الضحايا وممنوع تصنيفهم حسب الأعمار أو ذكر الأطفال والنساء والمسنين. وحسب تقويم الكيان الصهيوني الجديد وحلفاؤه الستة الكبار، لا يجوز الحديث عن هدم المباني واستهداف المستشفيات وتدمير مستشفى الأهلي على رؤوس من فيه، واستهداف مدارس الأونروا وقتل الموظفين والطلاب وتدمير العيادات والمدارس والمعامل والشوارع والمباني والمولدات الكهربائية. وممنوع أن تأتي على ذكر قطع الكهرباء والماء ومنع دخول الدواء والغذاء والمحروقات. على الفلسطينيين في قطاع غزة أن يموتوا من دون صوت فهم أرقام فقط. ومحرّم على الأمين العام وغيره أن يأتي على ذكر الضفة الغربية والقدس وما جرى بعد يوم 7 أكتوبر. فالأعداد التي قضت هناك لا ضرورة لذكرها أو ذكر عدد المعتقلين أو الجرحى.
هذا هو التقويم الجديد حسب الرزنامة الصهيونية: مسموح الحديث فقط عن ما حدث يوم 7 أكتوبر وما قامت به حركة حماس. كُتـِب التاريخ من جديد، لا شيء قبله ولا شيء بعده، لكن أنطونيو غوتيريش خرج عن النص، لم يلتزم بالتعليمات، أو للدقة التزم بها لمدة عشرة أيام وبعدها بدأ يتفلت. أدان قصف المستشفى ودعا لهدنة إنسانية، لكنه تجاوز الحد المسموح به يوم 24 أكتوبر، عندما قال «إن ما حدث يوم 7 أكتوبر لم يأت من فراغ» وهو تصريح بديهي يعرفه الداني والقاصي، وحذر منه منسق عملية السلام في الأرض المحتلة تور وينيسلاند، في تقريره أمام مجلس الأمن يوم 25 سبتمبر عندما حذر من أن الأوضاع في غزة لا تحتمل بسبب البطالة ونقص المواد والحصار، وأن القطاع على أبواب كارثة إنسانية أو انفجار، وأضاف الأمين العام مجموعة ممارسات قبل هذه التاريخ حول مصادرة الأراضي والقتل وهدم البيوت وتدمير الاقتصاد وفقدان الأمل، والأهم من ذلك أنه طالب بوقف إطلاق النار فورا والسماح للمساعدات الإنسانية بأن تدخل بكميات كبيرة، ومن دون تعطيل ووصف ما دخل من مساعدات بأنه قطرة في بحر. وكان مؤدبا عندما تحدث عن القصف والتدمير في غزة حيث قال: «القصف المتواصل لغزة من قبل القوات الإسرائيلية، ومستوى الضحايا من المدنيين، واستمرار التدمير الشامل للأحياء في تصاعد وهو أمر مثير للقلق العميق» فقط مثير للقلق العميق، لكنه تجرأ وقال الحقيقة. ثم وضع خشبة أخرى في عيونهم عندما قال: «دعني أكون واضحا، لا يوجد طرف في حرب يمكن أن يكون فيها فوق القانون».
لهذه الأسباب يريدونه أن يستقيل ولهذه الأسباب غيرت موقفي ولم أعد أطالبه بالاستقالة.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة رتغرز بولاية نيوجرسي